عموم البلوى (2)
من الأدلة على اعتبار عموم البلوى, سببا للترخص أن النساء المراضع لم يزلن في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا الحاضر يصلين في ثيابهن والأطفال الرضع يكثر تقيؤهم ويسيل لعابهم على ثياب أمهاتهم فلا يغسلن شيئا من ذلك لأن ريق الرضيع مطهر لفمه بسبب الحاجة ولأنه مما تعم به البلوى لذا عفى عنه.
ومن ذلك أن لبس الحذاء لا يجده كل أحد, فقد كان الناس في عصر الصحابة والتابعين ومن بعدهم يأتون المساجد حفاة في الطين وغيره, وقيل لابن عباس: الرجل يتوضأ ويخرج إلى المسجد حافيا قال: لا بأس به وكان علي بن أبي طالب يغوص في طين المطر ثم دخل المسجد فصلى ولم يغسل رجليه. قال أبو البركات ابن تيمية. وهذا يقوي طهارة الأرض بالجفاف لأن الإنسان في العادة لايزال يشاهد النجاسات في بقعة من الطرقات التي يكثر تردده عليها, وقد علم أن السلف الصالح لم يحترزوا من ذلك. أ.هـ, فإذا كانت الأرض جافة فلك أن تصلى عليها لأنها طهارة بمجرد جفافها.
إن ما تعم به البلوى صوره كثيرة وبسط الكلام في صوره يحصل به مزيد فائدة متى تنوعت الصور لمعرفة يسر الشريعة وسماحتها وكمالها وشمولها ومراعاتها لأحوال المكلفين وأوضاعهم, فما سبق ذكره لك نزر يسير من أمثلة كثيرة جدا بين يدي جمعتها من كتب العلماء المحدثين والفقهاء أبتغي بذلك وجه الله أولا ثم نفع عباده عبادة له سبحانه وابتغاء رضوانه رزقني الله وإياك الإخلاص في القول والعمل, وأذكر شيئا منها, فمن ذلك إجماع المسلمين على ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواز الاستجمار بالأحجار ومعلوم أن الاستجمار يزيل عنه النجاسة ولا يزيل أثرها, بل يبقى لها آثار وهي معفو عنها لأنها مما تعم به البلوى.
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامه بنت ابنته زينب فإذا ركع وضعها وإذا قام حملها, ومعلوم أن الطفل الصغير لا يخلو غالبا من النجاسة.
وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضا فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباعُ فقال عمر لا تخبرنا فإنا نرد على السباع وترد علينا.
وقال الحسن ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم والدماء تثعب منها ذكره البخاري في الصحيح.
وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ وبصق ابن أبي أوفي دما ومضى في صلاته وصلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دما حين طعنه المجوسي في صلاة الفجر.
وما زالت المراضع من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى الآن يصلين في ثيابهن والرضعاء يتقيأون ويسيل لعابهم على ثياب المرضعة وبدنها فلا يغسلن شيئا من ذلك لأن ريق الرضيع مطهر لفمه, ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب من دعاه فيأكل من طعامه, وأضافه يهودي بخبز وشعير وإهالة سنخة.
ومما تعم به البلوى ما يشق التحرز عنه مثل الطحالب المتصلة بالماء كل ذلك, مما يصعب ويعسر صون الماء عنه فيحكم بطهارة ذلك الماء وإن تغير بتلك الأشياء.
وكذا إذا دخل إلى حلق الصائم ذباب أو غبار أو نحو ذلك, مما يعسر التحرز عنه فإنه لا يفطر به.
ومس المصحف من الصببان للتعلم عما يتكرر وقوعه فلو كلف الأولياء بأمر الصبيان بالوضوء لشق ذلك على الأولياء فأتيح للأولياء ترك أمر الصبيان بالوضوء عند إرادة مسهم المصاحف للتعلم.
ومما شاع مس المرأة للرجل, وكذا العكس ولو جعل ذلك ناقضا للطهارة لشق ذلك.
والأمور اليسيرة معفو عنها كيسير النجاسة أو ظهور شيء يسير من العورة, لذا ضبط عموم البلوى, فإنه ما تحقق فيه أحد الأمرين: الأول: قلة الشيء. والثاني: كثرته وشيوعه وانتشاره.