الاستثمار الأجنبي من الغضب إلى الغزل

صالح الشهوان
تغير الزمن وتغير الناس, لكن الأرض هي الأرض والثروات هي الثروات, كانت الشعوب ترى في وجود الأجنبي وشركاته في بلادها انتقاصا لكرامتها وإهانة للسيادة الوطنية. ربما بسبب الاستعمار الذي كان بغيضا ونهب ثرواتها واستعبدها وأمعن في بقائها متخلفة فاقدة الفعل ودون قوام.
لكن عالم اليوم الخالي من الاستعمار التقليدي, أصبحت فيه دول الاستعمار نفسه وشركاته محل ترحيب وطلب دائمين من قبل الشعوب ذاتها التي طردتها من ديارها. فاللعنات التي كانت تصب على الاستثمار الأجنبي (وقد كان يسمى استغلالا) أصبحت استراتيجيات لجذب وإغراء الشركات التي كانت أصوات بعض الشوارع العربية تصرخ فيها لتخرج من بلادها.
تغير الزمن وتغير الناس لكن الأرض هي الأرض ذاتها, والثروات هي الثروات ذاتها. من كانت بلاده أنهارا وبحارا وسهولا خصبة أو من كانت أرضه معادن ونفطا ومن كانت شحيحة أو قحطا. الدول في إفريقيا أو في آسيا لعنت الاستعمار وطردته وهي اليوم تفتح النوافذ مع الأبواب للمال الأجنبي ليأتي مكرما معززا, له ما لم يحلم به من التسهيلات والامتيازات سواء شركات أو بنوك أو مؤسسات فنية واستشارية.
أصبح المال الأجنبي بعد أن كان في محل شك وطعن أو طرد وممانعة وحظر يقابل بالغزل لفظا و بالضمانات والمواثيق والمعاهدات فعلا لتكفل له حرية العمل كما لو كان من أهل الدار.
تبخرت صرخات الثائرين المشحونين ضد الأجنبي المحتكر, وذابت مقولات التأميم والاعتماد الكلي على الذات وأصبحت قيادة الإمبريالية وقيادة الطبقة البروليتاريا في رفقة وزمالة. اليمينيون ساروا في اتجاه اليساريين, واليساريون غذوا الخطى في اتجاه أهل اليمين.
هندس أهل الاقتصاد الحر مقولات "كارل ماركس" وفصلوها على مقاس نشاطاتهم وحقولهم ورؤاهم, كما هندس أهل اليسار مقولات "آدم سميث" وجعلوها مداميك في معمار نشاطهم الاقتصادي والاجتماعي حدث هذا منذ تعانق ماو تسي تنج مع ريتشارد نيكسون وتم التتويج عندما انهار سور برلين ثم قفز بوريس يلتسين على ظهر الدبابة!
ليس في الأمر توفيقية أو تلفيقية, بل إن العراك الطويل في مضمار التنمية الاقتصادية وجدل المادة والقيم, والرغبة في صنع التقدم الإنساني أفادت من الأطروحات الاقتصادية على الطرفين ومعهما أخريات كانت لها تأثيرات جوهرية في صياغة التنمية الاقتصادية على مستوى العالم أخذت أشكالا تكتلية متعددة إلى أن فرضت العولمة نموذجها في منظمة التجارة العالمية, حيث لا يسار ولا يمين, لا احتكار أمميا ولا احتكار إمبرياليا وإنما احتكام إلى أنظمة وقوانين موحدة لكل طرف الحق في استثمارها كيفما شاء شريطة ألا يتجاوز سقفها القانوني.
هل هذا يعني أن العالم قد وجد وسيلة للتفاهم على عيش مشترك لسوق عالمية مفتوحة, وأن ذلك حل مثالي ترك خلفه كل التطبيقات التعسفية لأصولية ماركسية أو أصولية سمثية؟
الواقع أن الأمر ليس كذلك, منظمة التجارة لا تمثل خلطة سحرية ذابت فيها الأطروحات والأهداف والسياسات الاقتصادية المختلفة, وإنما منتدى اقتصادي كوني له شروطه لاكتساب عضويته تجرب فيه دول العالم لياقاتها وفعالياتها وتختبر فيه قوانينه وتشريعاته في ضوء التطبيقات وما تسفر عنه من إيجابيات وسلبيات.
هكذا قد تكون المنظمة مقدمة فلسفة اقتصادية جديدة لعصر اقتصادي عالمي جديد, فهي إن تنجح فذلك لصالح البشرية جمعاء, وإن أدركتها الشيخوخة واستنفدت قدرتها على مقاومة الاختلافات والخلافات, فسوف يعود العالم إلى جدل حامي الوطيس لكنه حتما ليس الجدل ذاته بالأمس القريب بين يمين أو يسار, بين تخطيط مركزي وملكية الدولة أدوات الإنتاج أو ترك الأمور كلها في أيدي القطاع الخاص. جدل قد يعيد صياغة السيادات الدولاتية على تصور جديد لإدارة الموارد والثروة البشرية في العالم وفق اختصاصات يتكفل فيها كل دولة أو مجموعة من الدول بإدارة قطاعات بعينها من الموارد الطبيعية ربما شبيها بما حلم به كثيرون من "توماس بين" الأمريكي إلى "برتراند" رسل البريطاني.. لكن الأكيد ألا عودة لما كان!! ودائما في الإمكان أبدع مما كان.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي