"ما فيها يا أُمي ارحميني"
شهدت مدينة الرياض الأسبوع الماضي ندوة ناجحة بكل التقديرات والمعايير عن سوق المال, نظمتها هيئة سوق المال بالتعاون مع الجمعية الاقتصادية السعودية تحت رعاية الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض, وألقى الكلمة الرئيسية جماز السحيمي رئيس هيئة سوق المال, وتضمَّنت الندوة جلسات متخصصة تتعلق بدور سوق المال في الاقتصاد الوطني والبيئة التشريعية والتنظيمية وصناديق الاستثمار وتقويم الأداء والأسعار وأسواق المال الخليجية ودور صناع القرار . ودار الجلسات بجدارة وحكمة شخصيات لهم وزنهم وثقلهم وعلمهم وخبرتهم, وضمت الأمير عبد العزيز بن سلمان, الشيخ محمد أبا الخيل, والدكتور سليمان السليم وكلا من الدكتور حمد بن سليمان اليازجي, الدكتور محمد بن حمد القنيبط, الدكتور محمد الجاسر, والدكتور عبد الرحمن الخلف.
المواضيع التي طرحت للعلم والمعلومية والبحث والنقاش مفيدة وشائقة, ووفرت قدراً كبيراً من المعلومات النافعة للباحث الراغب في معرفة الجوانب العلمية والثقافية لنشاط اقتصادي عرفته البلاد لأكثر من نصف قرن وتدرَّج في التنامي على سنوات طويلة, شاهداً على تنامي الاقتصاد الوطني ومرآة لمراحل تقدمه وازدهاره. واقتصرت بدايات الاهتمام الأكبر به على سنوات الوفرة الواقعة ضمن السنوات الأخيرة من القرن الماضي, حيث ظهرت شركات شجَّعت على قيام معظمها أجهزة الدولة في القطاعات المالية والزراعية وقليل من الصناعية والخدمية, واهتم أصحاب الأموال الفائضة والسيولة المرتفعة بالتسابق والتزاحم للاستثمار فيها, وتمكنوا من الحصول على حصص مساهمة فلكية, مقارنة بما خصصته الدولة للمواطن الفرد, ولكن بالتراضي والتفاهم مع من يوفرون حضور الشخصية الاعتبارية مقابل ما يتفقون عليه عوضاً لتسهيل تعاظم الملكية لآخرين من جهة والحصول على نقدية من جهة أخرى, ودون مخالفة حرْفية النظام ولا اختراق حُرمة التنظيم, وفتح لأنفسهم مجالا طيبا لتكوين محافظ أسهم شخصية للادخار وتجارة الأسهم التي تعاظمت قيمها وزادت تداولاتها وأوجدت سحراً يجذب الكثيرين ليواصلوا جلسات البلوت الليلية إلى مجاكرات مع طلعات أداء الأسهم, وكونت بداية لاهتمام صغار المقترضين والمدخرين, وساعدت على الدخول في تجارة الأسهم خاصة بعد أنْ تسابقت البنوك المحلية في التسعينيات على لافتتاح صالات المتاجرة في الأسهم وسهلت الاقتراض بضمانة قيمة الأسهم بمعدلات تصل إلى النصف, ومناخ عام متفائل لاستمرار تزايد الأسعار وتنامي الأرباح, إضافة إلى طرح متباطئ لأسهم مضافة لشركات جديدة نقلت حجم إجمالي السوق من الملايين إلى البلايين, ومنها "ضرب" في العلالي نحو ترليونات الريالات, ويعتقد المتاجرون في سوق الأسهم أنَّ إدراج قيمة الأسهم غير المتداولة "تنفخ" إجمالي القيمة السوقية دون مبرِّر, وينتج عنها "انتفاخ" يحتاج إلى تصحيح . ويهمس كثير ممن لهم "باع" في نشاط الأسهم, أنَّ أهم مضاربات التعاملات الملتوية من جهات مؤثرة ومستغلة يمكن الاستدلال عليها بسهولة, وتوقيفها عند حدودها لما يحقق المصداقية والشفافية والاطمئنان والأمان.
الروح الغالبة والمسيطرة على الحضور تمثلت غالبيتها في شريحة المثقفين والمتعلمين من أصحاب المدخرات المتوسطة والدخول المحدودة, ولا يدخل فيها الغالبية العددية من المساهمين الأقل ثقافة وادخاراً ودخلاً, وأكثر المواطنين حاجة إلى الرعاية وانتشالاً من التهميش الذي هُم فيه في كثير من حياتنا الاقتصادية الاجتماعية, علماً أنَّ الشريحتين تتشاركان في "وُقوعهم إلى شوشتهم" في تفريغ "الغالي والثمين" في سوق الأسهم, ويعتبرون إسهاماتهم في الأسهم حقاً مُدخراً في حرز الصون والأمان, تضمنه هيئة سوق المال, وتنظيماتها توفر المناخ الاقتصادي الأمثل لارتفاع أسعاره على الدوام, وحماية مصالحهم المستقبلية من التأخر والانهيار.
الطروحات التي نظمتها ندوة الهيئة رائعة ومفيدة, ولكن أكاديميتها لم تشف غليل الحضور, وأسئلتهم التي دارت حول هذا الجانب التثقيفي لم تلاق الإجابات الكافية ولا الردود الشافية الوافية, بينما توافَرت العناصر الإيضاحية التقليدية, والأجوبة "الحلمنتيشية" الفنية, لأسباب المشكلة والحلول العملية الوقائية الممكن اقتراح تقديمها, أو استنباطها من مشاعر وتطلعات الحضور التي كانت تتراقص في أرجاء صالة الاجتماع من كثرة معاناة الحاضرين في تخمة حاضر سوق الأسهم وقلقهم من المستقبل. ربما هذه الجزئية المهمة من واقع مكابدات تجارة الأسهم في السوق السعودية لا تخفى على هيئة سوق المال, ولكن متابعتها من قبل أجهزتهم ليست واردة وفقاً لحرفية النظام وروح التطلُّع وليست من مهماتهم ولا مسؤولياتهم, وتتعلق بالتوازن بين العرض والطلب, ومسؤوليات نتائجها وعواقبها تختص بها فعالية الحُرية الموجودة والقائمة على مدى توافر العرض والمطلوب من سوق الشراء أو العرض لإسهامات جديدة متأخرة لمعوقات جذرية في تركيبة الاقتصاد أو تباطؤ في إقرار الإفراج المتدرِّج لمخزون أسهم كثيرة في شركات مساهمة قائمة ولا تمثل جزء من تجارة سوق التداول.
تعاظم التحذير من مخاطر واحتمال أضرار ارتفاع أسعار الأسهم السعودية الزائد, ودون مبررات اقتصادية وتجارية لا توضحها نتائج الشركات وارد ومنطقي ولا غبار على تناقله وليس هنالك طريقة لتلافيه. واستمرار الزيادة في أسعار الأسهم حتى بنسب متناقصة, ودون مصحِّح لتوازن العرض والطلب, متوقع على الرغم من عدم قيام المسوغات التجارية لتأييده, ومحاذير الإخصائيين من احتمال نكسة كبيرة ربما قريبة أو بعيدة الحدوث في المستقبل القريب مقبول, ولكن استمرار هذا الوضع مظهرياً, إنْ لم يكن مخبرياً, يتماثل مع الجسم السليم المنتفخ البطن, لدرجة تجعله بين القوم مضحكة وفي عيون الناظرين مسخرة, وللغُرْب "سوطرة".
ربما هي زلة لسان لمسؤول كبير في المنتدى أنَّ حجم سوق تداول الأسهم يمثل 15 في المائة من إجمالي قيمة أسهم الشركات السعودية المساهمة المعروضة للتداول وأوصى أنَّ أقرب الطرق إلى تحقيق توازن متقارب بين العرض والطلب ويصحح مسار تجارة الأسهم ويعدِّل الأسعار إلى مكررات معقولة ومقبولة, يكمن في زيادة الكميات المعروضة من الأسهم لتمتص الغلو وتوفر التقارب من الطلب وتستقر الأسعار إلى مستويات مقبولة ومعقولة. وأنْ تعي البنوك إلى جانب حقها في الربحية التجارية توفير التعاملات الإقراضية الأكثر مسؤولية وأقل ضرراً على الفرد والاقتصاد.
إنَّ سرعة البت في تسريع إجراءات قيام شركات مساهمة جديدة والتدرُّج في الإفراج وبيع حصص الأسهم المخزونة مهم, وإذا كان إقراره ليس من مسؤولية الهيئة, فإنَّ من واجبها متابعته مع الجهات المعنية, وأنْ تُدرج موضوعه على مسؤولياتها, وتقبل أهمية مسؤولياتها والتزامها في هذه المرحلة تماثلاً مع اهتمام المواطن بالشركات المساهمة, وتجنِّد كل إمكاناتها لتسريع تسجيل الشركات المساهمة الجديدة بالتنسيق مع الجهات الحكومية الأخرى أو مساعدة مسؤولي هذه الشركات على إنجاز المستندات التوثيقية المطلوبة . إنَّ علاقة مسؤولي الهيئة في هذه المرحلة بانطلاقة الاقتصاد مع الجهات المختلفة والشركات هي خدمية رائدة ولا تتماثل بعلاقة الطالب مع ناظر المدرسة ولا مقارنتها بأسواق المال الأوروبية, بقدر حرص الهيئة على تقاربها وصهرها مع واقعنا الاقتصادي المحلي, الذي قد يوفر لها في المستقبل واقع الانفتاح الاقتصادي العالمي المتوقع تميزاً عن أسواق المال العالمية.
لا أنكر فهم ومعرفة المشاركين في الندوة وخاصة أعضاء الهيئة, وأعي تماماً حرصهم على مسؤولياتهم وغيرتهم على تقدم الاقتصاد وازدهاره, ولكني أخاف على مستقبل تقدُّم سوق الأسهم وضحاياه ومُستغليه من صرامة "نغمة" الإجابات واختزال تحمل المسؤوليات, وتخلُّف الروح الخدمية عن النظرة المتعالية في التعامل والتفاهم والتفكير . لا يمكن أنْ نغفل هذا الجانب, خاصة والهيئة حديثة العهد والطريق إلى التجارب والتعليم مفتوح. إنَّ العمل له أصول وأبجديات ويتعلق بروح الاقتصاد وحيويته ويواجه مزاحمة شرسة من أسواق قريبة وبعيدة. وإذا كان القسم الأكبر من الإسهام في الـ 15 في المائة لأصحاب الأموال الضخمة العارفين والفاهمين, فإنَّ العددية الأكثر هي من صغار المساهمين الذين ربما باعوا مقتنياتهم لتوفير أرباح تستر أحوالهم. إنَّ كبار مسؤولي الهيئة أكبر من أنْ يتذرعوا بحرفية النظام, ويتناسوا أهمية الخدمية لإنقاذ أرواح كثيرة من مواطنين عاديين تحتاج توضيحات حانية وتوجيهات واضحة وصائبة.
هيئة سوق المال قدَّمت في ندوتها سجلاً يعتبر مفخرة لمن يفهم محتويات طروحاتها, وأعطت القناعة أنها فاهمة لتقنيات مهنتها وعلى قدر المسؤولية المناطة بها, لكن وللأمانة فإنَّ بعض من شاركوا في تقديم الندوة وأسهموا في الإجابة وقدموا الشرح, من هيئة سوق المال بعيدين عن واقع ثقافة المجتمع اقتصادياً وغير عابئين بمقدار الأعباء المالية التي يتحملها كثرة صغار المساهمين, وحاجتهم في أنْ تتولى الهيئة مباشرة أو غير ذلك مشاركتهم الهم والغم بالحلول للعقبات القائمة, ناهيك أنه بدون ذلك فلا معنى لحرية السوق ولا للشفافية ولا ضرورة لإقامة ندوة, وهذا على الرغم من أهمية تكرارها واستمرارها وتعميم انتشار فوائدها المعرفية. ويحضرني في هذه العجالة ما سمعت نقلاً عن عميد كلية الأمير سلطان للسياحة والإدارة الدكتور ياسين الجفري "إنَّ الإستفادة من هذا الملتقى تعتبر جيدة نوعاً ما, تعتبر قليلة ومقتصرة على أشخاص معينين ومتخصصين في سوق الأسهم, يعرفون مداخلها ومخارجها, وللإعلام دور كبير في نشر مثل هذه المواضيع الاقتصادية التي لا يفهمها الكثير من أبناء الشعب السعودي".
العقل والمنطق وانتشار المعرفة والعلم وثقافة الأسهم يحققها قيام ندوات كثيرة وفي العديد من المدن بأسلوب يتناسب مع فهم المواطن العادي والحرص على الإيجابية التي لا يمكن مواجهتها إلاَّ بإزالة العوائق, وتوفير الانسيابية الإدارية في التعاملات الحكومية الخدمية والتنسيق مع الجهات المعنية. الشفافية هي في تعميم ونشر الوضوح وحرية السوق في أنْ تسبق الهيئة إليه ويتبعها الآخرون. خاصة بعد أنْ طمأن الأمير سلمان الحضور عشية افتتاح اللقاء 15 لجمعية الاقتصاد السعودي وبشَّرهم بأنَّ جميع المستثمرين في سوق المال السعودية إلى حال الازدهار والحيوية التي تعيشها السوق, وسيرهم الصحيح وفق خطة اقتصادية استراتيجية شاملة مشيراً إلى "أنَّ الثورة التي تشهدها سوق المال السعودية هذه الأيام مؤشر واضح على حيوية هذه السوق ملمحاً إلى أنَّ هذا التطور الواضح في أدائه لم يتحقق صدفة وإنما نتيجة العمل الجاد من أجهزة الدولة التي تسير وفق استراتيجية اقتصادية محددة". كما أنَّ قصة الكفاح الناجح والتقدُّم العلمي على 19 سنة لجمعية الاقتصاد السعودية, وفقاً لما جاء في كلمة الأمير عبد العزيز بن سلمان تطمين لمستقبل واعد لهيئة سوق المال.
معالي رئيس الهيئة أوضح في كلمته استراتيجية تدرُّج الهيئة في مواجهة التذبذب الحاد في سوقنا المالية, وليس عدم استقرار مؤشراتها, مضيفاً اعتقاده أنَّ 90 في المائة من القرارات الاستثمارية في السوق هي قرارات واستثمارات فردية وليست مؤسساتية, فسيادة القرارات الفردية أدت إلى عدم الاتزان في السوق المالية. ومن منظوره أنَّ دور الهيئة في حماية المستثمرين يقوم على ثلاثة محاور, الأول: زيادة الوعي الاستثماري, والثاني حماية المستثمرين من الممارسات غير العادية والثالث بناء قطاع أعمال الأوراق المالية ليكون عوناً للمستثمرين على اتخاذ قرارات استثمارية صائبة, والله أعلم.