طروحات صحافتنا.. هل مازالت كلام جرائد؟

حققت الصحافة السعودية خلال السنوات الماضية، قفزة نوعية متميزة جعلت منها مرآة حقيقية للمجتمع وما يجري فيه، ومنبرا فعالا لعرض ومناقشة قضايا الوطن والمجتمع بقدر إيجابي من الشفافية ومساحة رحبة من حرية الطرح وإبداء الرأي في كثير من القضايا، وجاء ذلك كثمرة من ثمرات سعي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أيده الله لإرساء مبادئ وثقافة إصلاح شامل بداية من رعايته الكريمة للحوار الوطني الذي عمق الولاء الوطني والوعي المشترك لكل أطياف المجتمع عبر إتاحة الفرصة لمناقشة كل الأطروحات وإبداء الرأي بإيجابية كبيرة، وجاء دفعه، وفقه الله، لهذا الحراك الفكري من منطلق وعيه بأن التغيير المقبل، لا محالة لا بد وأن يؤسس على مفاهيم وطنية جامعة على أرضية مصلحة مشتركة، وفي هذا المناخ الإيجابي الجديد لعبت صحافتنا دورا متميزا وأسهمت إسهاما فعالا في إثراء الساحة الوطنية من خلال ما يطرح على صفحاتها من آراء وأفكار ونقاشات لكل جوانب حياتنا وهمومنا وشجوننا، وهو ما جعل الصحافة السعودية ثرية بالرأي والنقد والحوار لكثير من القضايا والمسائل التي كانت وإلى وقت قريب تتداول في الغرف الموصدة, بعيدا عن الآذان السارقة للسمع، وجاء تفاعل صحافتنا مع هذا المناخ الجديد الذي أشاعه خادم الحرمين الشريفين منذ أن كان وليا للعهد إيجابيا إلى حد كبير, فالقارئ لصحفنا اليوم يطالع فيها العديد من التحقيقات الصحافية الجريئة حول معاناة المواطن، وكثير من مقالات الكتاب الذين يناقشون فيها وينتقدون كثيرا من السلبيات ويتطرقون إلى ملفات كانت تعتبر من الممنوعات والاقتراب منها يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه.
كل هذه الإيجابية شيء جميل ومفرح، فالأمة لا يمكن لها أن تعالج قضاياها وتحمل مشاكلها إلا في الضوء وليس في العتمة، وللصحافة في ذلك دور من خلال إسهامها الفعال في إضاءة حياتنا كأحد أهم منابر الإصلاح، فهي تفتح صفحاتها لكي يسهم أهل الرأي والفكر والقلم لإثراء الساحة بفكرهم ونقاشهم ونقدهم بما يبدونه من آراء ويسلطون فيه الضوء على السلبيات والقصور، إلا أن السؤال المهم هو ما المردود لكل ما يكتب في الصحافة؟ فما يكتب في الصحافة ليس بغرض تسلية القارئ و"فش خلقه"، بل إسهام فعال في قضايا الوطن، فكثيرا ما تثير، مقالات وتحقيقات صحافية، الاهتمام بما تطرحه من رأي أو تسلط فيه الضوء على سلبية ما، وخذوا مثلا ما يكتب عن قضية المعاناة مع المرور ومشاكله التي لا تنتهي بل تتفاقم يوما بعد آخر في ظل غياب دور فعال لإدارات المرور، أو ما يطرح حول سوق الأسهم وما يحدث فيها من أمور غريبة، أو مناقشة قضية مهمة مثل قضية الإسكان بكل أبعادها الاجتماعية والوطنية التي باتت تمثل مشكلة فعلية لكون السكن من الأولويات، أو مناقشة اختلال معادلة الدخل والمصروف وما يتركه من أضرار ويحدثه من سلبية في حياة المواطن وقدرته على تطويرها إلى الأفضل، أو ما تطرقت إليه الصحف منذ بداية رمضان من معاناة سكان جدة من توقف ضخ المياه لمنازلهم واضطرار غالبيتهم للمداومة عند العين ساعات طويلة للحصول على وايت ماء, والمسؤولون عن توفير المياه يكتفون بإطلاق الوعود العرقوبية، كل هذه القضايا أثارتها ومازالت تثيرها الصحافة يوميا أشعر بأن حبرها يصبح كالدخان الذي يضيع في الهواء في ظل عدم وجود أي تجاوب من الجهات المسؤولة والمعنية فيما يطرح وغياب لجهة يحق لها متابعة ما تتناوله الصحافة من قضايا، وهذه سلبية لا تتفق مع أجواء الانفتاح الذي أشاعه خادم الحرمين الشريفين حفظه الله، ودعا فيه دائما إلى المشاركة في الرأي، فما زال هناك وبكل أسف من المسؤولين من يرى فيما تطرحه أقلام الكتاب والصحف مجرد "كلام جرائد" (لا يودي ولا يجيب) كما يقول المثل الشعبي المعروف.
ما نريده بالفعل أن يستفاد مما يطرح في الصحف من آراء وأفكار، وأن تكلف جهة بمتابعته والاستفادة من إيجابيته، وأرى هنا أن مجلس الشورى يمكن أن يكون له دور فعال في ذلك، فلو أن كل لجنة من لجانه العديدة اهتمت بالجوانب التي تعنيها وتابعتها مع الجهات المسؤولة لأمكن بالفعل التعامل مع ما تطرحه الصحف بجدية، ولا أدري أين هيئة الرقابة والتحقيق عن ذلك؟ لا أعلم إن كان من مهامها الاهتمام بما ينشر في الصحف كمعاناة سكان جدة مع المياه التي منعت عن البيوت وتوافرت في مقر العين عن طريق الوايتات وما يتداوله الناس من حكايات حول ذلك أم لا..؟ وإذا كان لا يعنيها فما الذي يعنيها إذن؟
أخشى أن تتحول الحرية التي تحققت لصحافتنا إلى مجرد كلام جرائد فعلا، وأذكر هنا أن أحد الكتاب انتقد أداء جهة ما مطالبا بإقفالها لأسباب أوردها سمحت له بهذه المطالبة وبأدلة ساقها، ومر المقال مرور الكرام على جميع أجهزة الدولة دون أن تعني أحدا وكأن كاتبنا ينقد جهة في جزر الواق واق، وهذا ما قصدته بكلامي.
نعم يحمد للدولة إتاحة الفرصة لكي تأخذ الصحافة دورها وتمارسه بحرية مسؤولة، ولكن على أن يتعامل مع ما تطرحه بجدية، وإذا كان يطلق على الصحافة بأنها السلطة الرابعة لأنها قادرة على إسقاط حكومات وإقالة وزراء في دول كثيرة، فما نريده فقط أن يؤخذ كلام الصحافة على أنه مشاركة وإسهام لا مجرد حكي وطق حنك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي