من طفرة العقار إلى طفرة الأسهم.. أين الطريق ؟
لا يسع المرء منا وهو يرى فرصة عودة تنامي الإيرادات إلى الخزانة العامة إلا أن يبتهل إلى الله العلي القدير، أن نتمكن هذه المرة من استغلال هذه الفرصة للقيام بالإصلاحات الاقتصادية الضرورية والعاجلة لتبني مشروع اقتصادي طموح وخلاق يسمح لنا أن نحقق هدفنا الاستراتيجي المهم المتعلق بتنويع مصادر دخلنا الوطني وتقليل اعتمادنا على إيرادات تصدير النفط الخام. علينا أن نتعرف بداية أننا لم نوفق، بعد عقود من الأخذ بخطط التنمية الثماني، إلى بلوغ وتحقيق هذا الهدف، على الرغم من كونه أحد أهم أهداف خطط التنمية جميعها التي أخذنا بها طيلة العقود الماضية!
إن الاعتراف بالحقيقة هو أولى خطوات التوجه نحو الحل. إننا بحاجة ماسة وعاجلة لمشروع اقتصادي جريء يمكننا من بلوغ هذا الهدف. وهو أمر ممكن جدا وقابل للتحقيق، ما توافرت لدينا الرؤية الواضحة والإرادة الصادقة والعزيمة الماضية.
لقد استطاعت دول، بإمكانات أولية متواضعة، تحقيق أهداف اقتصادية طموحة في بحر أربعة عقود، وهي لعمرك فترة زمنية ضئيلة في عمر الشعوب والأمم.
من كان يتصور أنه في أوائل الثمانينيات الهجرية (الستينيات الميلادية) كانت كوريا الجنوبية بلدا زراعيا خاضعا للاستعمار وكان متوسط الدخل الفردي فيها لا يزيد على مثيله في دولة مثل غانا، 230 دولار سنويا،؟ واليوم بعد خمسة عقود تنجح كوريا الجنوبية في أن تكون الدولة الثالثة عشرة على مستوى العالم من حيث نسبة مساهمتها في التجارة العالمية، وبمعدل نمو سنوي بلغ 7 في المائة! وتكررت قصص النجاح الباهر نفسها بصور متعددة في عدد من دول الشرق الأقصى كماليزيا وسنغافورة وتايوان مِمن أطلق المراقب الغربي عليها اسم النمور الآسيوية (إما حسدا أو إعجابا، والاحتمال الأول أرجح عندي إذا ما تذكرنا أحاديث د. مهاتير محمد)! كما برزت الصين والهند أخيرا لتقدم لبقية الدول النامية أنموذجا لما يمكن أن تصنعه للانعتاق من ربقة التخلف والفقر واللحاق بالركب العالمي!
لا يمكن لأحد أن ينكر نجاحنا النسبي في إقامة البنية (أو الهياكل) التحتية الأساسية في فترة الطفرة الأولى (طفرة العقار)، لكنها لم تحقق شيئا مذكورا لما كان يمكن أن يقوم فوق هذه البنية، من قطاعات اقتصادية منتجة تساهم في تنويع مصادر الدخل وتنصب فرصا للوظائف وتمد المجتمع بأجيال من الكفاءات المؤهلة، هذا إن لم يكن مع الأسف قد حدث تراجع خطير في فترة التسعينيات الميلادي!
لا أخال اثنين منا يختلفان على أن الضلال الاقتصادي بعينه، هو أن نعتقد أن مجرد كوننا نعيش فوق بحيرات ضخمة من النفط سيضمن لنا استقرارا اقتصاديا دائما وسلما اجتماعيا آمنا! كل دولة على سطح كوكبنا أصرت على أن تبقى ممارسة لنشاط استخراج وتصدير المواد الأولية، ظلت في ذيل قائمة التدافع والتنافس الاقتصادي العالمي!
إن توفير فرص العمل هو السبيل الرئيس للقضاء على الفقر والاضطراب الاجتماعي، والاستثمارات هي طريق توليد فرص العمل الجديدة، والإصلاحات (التي تهيئ بيئة اقتصادية صحية ومنافسة) هي القناة المضمونة لجذب الاستثمارات الأجنبية وتوطين الرساميل الوطنية! إنها كما ترى حلقة متسلسلة متواصلة يعتمد بعضها على بعض.
جاء في التقرير السنوى الثالث الخاص بالتعامل التجاري، الذي صدر أخيرا عن مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي ( والذي يعرض عددا من المؤشرات التنظيمية المتصلة ببدء المشاريع وتشغيلها أو إغلاقها، وإجراءات تسديد الضرائب، وممارسة التجارة، والتي تقيس الوقت والتكلفة المرتبطين بمختلف المتطلبات الحكومية...) أقول: جاء في هذا التقرير أن دول الشرق الأوسط وإفريقيا (وهي مجتمعات تعاني من ارتفاع معدلات البطالة بين الناشئة وفى أمس الحاجة للمشاريع الجديدة) ما زالت تعرقل المشاريع الصغيرة والمتوسطة بفرض أعباء قانونية مجهدة، وتقوم بإصلاحات بطيئة. وبينما أسرعت العديد من دول أوروبا الشرقية بإدخال الإصلاحات الضرورية للحاق بركب التطور الاقتصادي العالمي، ما زالت منطقتنا مع دول إفريقيا تراوح مكانها!!
عندما لا يتعدى عدد البنوك في اقتصاد بحجم الاقتصاد السعودي سدس عددها في الاقتصاد اللبناني أو البحريني، وعندما لا يتعدى عدد الشركات المساهمة في اقتصادنا سبعا وسبعين شركة أو نحوها، فليس عجيبا أن نرى هجرات الأموال و تدافع السعوديين لأول فرصة تسمح لهم بالاكتتاب في شركة خليجية (دانة غاز في دبي). وعندما يفوق عدد الجامعات الأردنية عن ضعف عددها في بلادنا على الرغم من الفارق في الإمكانات وعدد السكان! فليس عجيبا أن نرى نزوح أبنائنا لتلقي العلم في الدول المجاورة، ولا أن تختار جامعة السوربون أن تفتح فرعا لها في دبي وليس في القاهرة بعراقتها أو في الرياض بإمكاناتها!
لقد بدأنا في منتصف الستينيات الميلادية بإقامة مؤسسة تعليمية جامعية نوعية راقية (كلية البترول والمعادن آنذاك) وأصابت حينها نجاحا مدويا وكانت موئلا للقاصدين المتميزين من طلاب الوطن والبلاد العربية الأخرى، فما بالنا لم نؤسس على منوالها نجاحات متتالية؟ حتى سبقنا على هداها الجيران بمشروع أكبر(مدن جامعية) وتنظيم أقوى (مؤسسات الربحية) وسمعة أرقى (إشراف عالمي).
وعندما تتسع سوق خدمات النقل الجوي مع اتساع الاقتصاد والسكان، وتظل لدينا مؤسسة طيران واحدة بخدمات غير مرضية لانتفاء المنافسة، ومطارات متهالكة (جدة) أو مهجورة (الدمام)، فليس عجبا أن تنتعش شركات الطيران والمطارات المجاورة معتمدة على حجم الطلب السعودي وعلى حساب تأخرنا في سرعة اتخاذ القرارات!
ليست المشكلة في كثير من أزماتنا الاقتصادية مشكلة قلة موارد أو نقص التمويل اللازم، إنما هي مشكلة: ضعف - وأحيانا - سوء إدارة وبطء اتخاذ في القرارات، فرضته أنظمة تجارية عتيقة وإجراءات إدارية بالية. ففي اقتصادنا قدرات كامنة وموارد هائلة، يمكن لو أحسنا استغلالها أن تدفع به إلى مصاف دول العالم النامي!
أشارت عدة استطلاعات للرأي، ومنها ما أجرته شركة ''سيج'' البريطانية وشمل 238 مسؤولا في كبريات الشركات العالمية والعربية والوطنية العاملة في بلادنا و منطقة الخليج، إلى أن البيروقراطية وتعقيد القوانين، يقفان حائلاً دون تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى المنطقة، والتي تقل عن ثلث في المائة من حجمها في العالم!
وأكد 40 في المائة من المشاركين في الاستطلاع (عند السؤال عن الإصلاحات التي من شأنها أن تساعد هذه الشركات أكثر على النمو) أن تطوير القوانين ومعالجة ''الروتين الحكومي'' سوف يساعد شركاتهم على النمو أكثر على المدى البعيد.
في عام 1400 هـ - 1980 صنّف اقتصادنا بأنه واحد من أغنى اقتصاديات العالم بمقياس متوسط الدخل الفردي، لكن اليوم أصبح متوسط الدخل الفردي أقل مما كان في عام 1390هـ 1970! والسبب أننا لم ننجح بعد في إحداث تنوع حقيقي في مصادر دخلنا الوطني. ولم ننقله من اقتصاد ريعي يعتمد بشكل أساسي على إيرادات النفط إلى اقتصاد متنوع في مصادر دخله!
وأتى علينا حين من الدهر 1985 -2002 أصبح معدل نمو السكان العالي 31 في المائة بالإضافة إلى تراجع الدخل النفطي يشكلان مأساة اقتصادية حقيقية. إن دخلنا الوطني يجب أن ينمو على الأقل بالنسب نفسها نمو السكان 31 في المائة، حتى نحافظ على مستوى المعيشة الذي ادكان سائدا. لكن نظرا لان إيرادات النفط لم تكن كافية، أصبح الدخل القومي اللازم للمحافظة على مستوى المعيشة السابق غير كاف. إن سد هذه الثغرة يتطلب أن ينمو القطاع الخاص بنسبة 68 في المائة سنويا، وهي نسبة نمو عالية تتطلب عملا عاجلا وجهدا صادقا، خاصة إذا عرفنا أن معدل نمو كوريا والهند هو في حدود 7 في المائة. وفي الواقع فإن قطاعنا الخاص لم ينمو بأكثر من 18 في المائة في العشرين سنة الأخيرة!!! لماذا وما الأسباب ؟ وكيف النجاة؟بن
إن ترسيخ أجواء الحرية الاقتصادية الحقيقية هو الأمل الذي سيساعدنا على إحداث الإصلاحات اللازمة والقضاء على المعوقات الظاهرة. إن أحداث العقدين الماضيين أكدت أن مجاراة النمو في طلب الناس على الخدمات والسلع، المنبثق من النمو في أعدادهم يتطلب العمل بجدية متناهية وعزيمة صادقة على ترسيخ كل ما من شأنه زيادة نسبة مساهمة القطاع الخاص في توليد دخلنا الوطني حتى يمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مستوى معيشة المواطنين! وإن لم نفعله فستجبرنا الأحداث (الانضمام لمنظمة التجارة العالمية) على فعله لكن قد يكون بثمن أفدح وخسائر أكبر!!
إن الاقتصاد الحديث يقوم على إحدى دعامتين أو توليفة من كليهما: قطاع إنتاجي قوي ومنافس (الحالة الصينية)، و/ أو قوة بشرية مؤهلة ومستوعبة للتقنية الحديثة (الحالة الهندية). فما الذي نجحنا فيه من أيهما في فترة الطفرة الأولى (طفرة العقار)؟
وهل ستنقضي فترة الطفرة الثانية (طفرة الأسهم) دون مشروع قومي خلاق يحقق أيا من هذين الهدفين أو كلاهما؟
فرصة أخرى تتكرر أمامنا، فهل نحسن استغلالها؟ أم يفوز بها الجسور؟