من وحي الشهر الفضيل

لا أدري إن كان يوم الثلاثاء هو بداية شهر رمضان المبارك، جعله الله شهر خير وبركة على الجميع، أو غدا الأربعاء، فالأمر يتوقف على رؤية الهلال في الليلة السابقة وبالتحديد بعد مغرب الشمس، وجرت العادة ألا يرى في المدن بسبب أضوائها التي تشوش على رؤيته، ولهذا جرت العادة بأن يأتي خبره من إحدى القرى النائية حيث تكون السماء صافية في العادة، ونحن من الدول القليلة التي تربط بدء شهر الصوم وانتهائه بهذه الطريقة، أي إلزامية رؤية الهلال بالعين المجردة، وزيادة في الحرص يبدأ تحري رؤية الهلال من بداية شهر شعبان، ومع هذا لا يعتمد في إعلان بدء شهر رمضان إلا بعد التثبت من رؤية هلاله. لا أريد التوقف كثيرا عند إشكالية تحديد بداية ونهاية شهر رمضان المبارك، وهي إشكالية مزمنة ينقسم حولها الرأي بين متمسك بالسنة النبوية المطهرة بشرط الرؤية بالعين المجردة للهلال، وبين من يرى أنه لا مانع من الاستفادة من تطور الوسائل كالمراصد والحسابات الفلكية الدقيقة، فما زال هذا الانقسام في الرأي يتجدد كل عام دون أن يحسم الأمر بما يحقق المصلحة، وعلى الرغم من هذا الاختلاف في آلية تحديد دخول الشهر الكريم وخروجه إلا إننا ملتزمون بما يعلن رسميا موافقة لولي الأمر وثقة به.
على الصعيد الواسع أي الإسلامي ما زالت الدول الإسلامية تختلف في تحديد بداية شهر الصوم ونهايته، فتجد هناك تفاوتا بين دول وأخرى حتى بين دول متجاورة بل التي تقع على خط واحد في الاتفاق على بداية ونهاية واحدة لشهر رمضان، والغريب أن معظم الدول الإسلامية تعتمد في تحديد ميلاد الهلال على المراصد الفلكية، ومع هذا لا تتفق على بداية موحدة لشهر الصوم فيما بينها، وقد يفهم ويقبل التفاوت بين دول متباعدة لاختلاف منازل القمر، ولكن لا يفهم التفاوت بين دول متجاورة ومتلاصقة، وهذا الاختلاف ينسحب على الجاليات المسلمة في الدول غير الإسلامية، فهذه الجاليات تصاب بحيرة في تحديد بداية ونهاية شهر الصوم لعدم وجود جهة رسمية في البلاد التي يعيشون فيها تقوم بذلك، وهو ما يدفع بها لاتباع ما تقرره الدول الإسلامية، وهو ما يفتح الباب لاختلافها هي أيضا، خصوصاً إذا ما أصرت كل جالية على اتباع بلادها الأصلية مما يدفع بأن الجالية الإسلامية في الدولة الواحدة قد لا تتفق على بداية شهر الصوم ونهايته لأن كلا منها يتبع بلاده الأصلية.
هذا الاختلاف في تحديد بداية ونهاية شهر رمضان المبارك يؤدي إلى حدوث مواقف محرجة، ففي إحدى السنوات كنت في مدينة الدمام أواخر شهر رمضان، وقررت وزميل لي أن نسافر يوم العيد لمملكة البحرين حاليا وكان ذلك قبل إنشاء الجسر الذي قال فيه الشاعر المبدع الدكتور غازي القصيبي واحدة من أجمل قصائده التي تغزل فيها بالجسر الحجر وكأنه جسر من الزهور الندية واصفا إياه بأنه: جسر من العشق لا جسر من الحجر .. ذلك الذي امتد من الشطان للجزر، وحينما أعلن في المملكة أن غدا أول أيام عيد الفطر المبارك غادرنا في الصباح الباكر، وحينما حطت الطائرة في مطار المنامة بعد رحلة لم تستغرق أكثر من خمس دقائق، كنا عقب نزولنا نبارك لكل من يقابلنا بالعيد السعيد، في الوقت الذي كان فيه الأشقاء في البحرين يتمون شهر رمضان وهو ما أوقعنا في حرج بالغ حيث اعتبر البعض أننا ''نغيظهم'' بينما كنا في واقع الأمر معتقدين أن البحرين والمملكة اللتين لا يفصل بينهما إلا بضعة كيلو مترات ومسافة على مد البصر فقط توافقا على العيد، وهي مفارقة تكشف هذا الاختلاف حول شهر نتفق جميعا على صيامه وقيامه.
امتدادا لهذا الاختلاف حول تحديد بدء ونهاية هذا الشهر الفضيل ماذا عنا نحن كأفراد؟ ففي هذا الشهر الكريم تنقلب حياتنا رأسا على عقب، ويتغير أسلوب وطريقة يومنا وليلنا وهو ما يؤدي إلى تغير ساعتنا البيولوجية بمقدار 180 درجة كاملة، فنهارنا خمول وارتخاء يغالبنا فيه النعاس والعذر الصيام، وكأن الصوم هو كسل وضعف، مع أن المعارك الإسلامية الكبرى التي خاضها المسلمون الأول كان في رمضان، وليلنا سهر إلى الفجر حتى بات السهر من مظاهر رمضان الأساسية، وهذا التغير هو ما دفع بنا لتغيير ساعات الدوام والعمل، وكأن الصوم عن الأكل والشرب يؤدي إلى هذا التراخي والضعف مما يستدعي أن نؤخر بداية الدوام لإعطاء السهارى حتى ما بعد صلاة الفجر ساعات ينامون فيها، والكسل والخمول الذي يصيبنا في نهار رمضان لا يعود للصيام بل يعود لعدم النوم وسهر الليل بطوله.
وبمناسبة مقدم هذا الشهر الكريم، لا أذكر أين طالعت كاريكاتيرا غاية في الظرف والذكاء وهو عبارة عن إعلان يقول: بمناسبة شهر رمضان نعلن عن البدء في مساهمة السنبوسة، ولو زاد عليها الفول لكان أكمل الظرفة وصور واقع الحال كما يظهر في ذلك التزاحم والتدافع عند بائعي الفول، فظاهرة الشغف بتناول الفول على الإفطار جعل منه مسألة ترقى إلى مستوى ''الشرف'' الذي لا بد أن يراق عليه ''العرق'' وإن لزم الأمر يضحي بقبول صوم ذلك اليوم على أن الصوم لا يكون فقط عن الأكل والشرب بل عن السلوكيات السلبية، ولا أظن أن هناك أكثر سلبية من خدش صيامنا على أعتاب جرة فول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي