توحش الثقافة .. الكراهية الدينية
على الرغم من أنواعها وتعدد مصادرها ظلت الكراهية تمثل محورا رئيسيا في تشكيل علاقاتنا الاجتماعية. فكل ما تعانيه مجتمعاتنا من تفكك وأجواء مشحونة بالشك، وعدم التواصل والرغبة في الاصطدام بالآخر المختلف وغياب أجواء الحوار والتفاهم لمصلحة التنافر والاشتباك، وسهولة الانزلاق في دائرة العنف والاقتتال هو بسبب هذا الكم الكبير من ثقافة الكراهية التي اعتادت مجتمعاتنا على أن تتلقاها عبر وسائل فكرية وتربوية وإعلامية. فالكراهية على العموم هي حالة مرضية عندما يصاب بها الإنسان على المستوى الشخصي فإنها تنعكس على أخلاق ذلك الإنسان، فلا ينتظر من الكراهية أن تجعل من الإنسان ودودا ومحبا للآخر، ولا تجعله مستعدا للتواصل والحوار وليس بغريب أن تسمع من ذلك الإنسان المتشبعة روحه بالكراهية مصطلحات وكلمات وخطبا متشددة في النظر إلى الآخر المختلف، بل قد تكون في حقيقتها دعوات لممارسة العنف في التعامل مع كل من يقف في الخط المقابل ولا يأخذ بنفس الآراء والاجتهادات التي يدعي بصحتها. فالإنسان الذي يصل به الاختلاف في الرأي والاجتهاد إلى حد الكراهية هو إنسان مشوّه نفسيا وقابل للاختراق من قبل من يريد المساس بأمن واستقرار المجتمع. وقد تصل الكراهية بالإنسان إلى أن يكره حتى نفسه وحياته فينتحر ويفضل بذلك الموت على أن يعيش مع حياة قد فشل هو في الانسجام معها، وقد تتضخم كراهية الآخر المختلف بشكل يجعل التخلص من ذلك الآخر أمرا مشروعا له ومبررا نفسيا وعقليا. فليس هناك ابتلاء أشد من أن يعيش الإنسان في مجتمع يسمح لثقافته أن تتقبل ما يدعو إلى الكراهية في تشكيل علاقاته الاجتماعية.
وإذا كانت الكراهية في العموم هي مرض نفسي تجعل الفرد غير مستأمن حتى على نفسه، فإن الكراهية الدينية هي سرطان نفسي يفتك بالمجتمع ويدفع به إلى الفوضى والانفلات والتمهيد للآخرين للتحكم فيه والسيطرة عليه. فتوظيف قدسية الدين لتبرير الكراهية ضد الآخر تجعل الكراهية نفسها حالة مقدسة تستبد بالإنسان وتسيطر عليه شعوريا ونفسيا، فلا يتكلم إلا سبا وشتما وتقريعا، ولا يخطب إلا وتجده يهدد ويتوعد بالويل لمخالفيه منه ومن جماعته، ولا يكتب إلا إلى ما يدعو إلى الفتنة وتسقيط الآخرين، والتشكيك في معتقدات وقناعات المخالفين له، ولا يبحث ويدقق إلا من أجل الوصول إلى ما يدعم رأيه ويعزز من قناعاته الذاتية والمتوارثة في كراهية الآخرين والأخطر من كل ذلك أنه قد يستغفل المجتمع ويوهمه بأن كراهيته هي كراهية سلمية، ولا يريد بها ممارسة العنف ضد من يخالفونه في الرأي، ولكنه يعلم قبل غيره أنه ليست هناك كراهية سلمية، وأن إعلان الكراهية ضد الشخص أو الفئة المخالفة له في الرأي والاجتهاد هو إعلان حرب ودعوة لمريديه بممارسة العنف ضدهم. فإعلان الكراهية هو ارتقاء لأول درجة في سلم العنف، لأن الكراهية هي رفض وعدم قبول لذلك الآخر، وحالة الرفض وعدم القبول لا تنتج بطبيعتها علاقة متسالمة مع الآخرين، فالنفوس التي أعلنت الكراهية والنفوس التي هي ضحية لعدوان هذه الكراهية المعلنة هي كلها تعيش أجواء محتقنة ومتوترة وقابلة للاشتعال في أية لحظة.
وإذا كانت الكراهية في المطلق مرفوضة وغير مقبولة، فإن الحذر من الكراهية الدينية هو من الضرورات الاجتماعية، لأن السماح لها والتسامح معها هو جناية بحق المجتمع. فالمجتمع الذي يعيش الكراهية الدينية المعلنة هو مجتمع مشطور على نفسه وحالة الانشطار هذه تشهد على خطورتها سوء وفظاعات والحالة المزرية للشعوب التي تعيش الانقسام الديني والمذهبي، فأشد أنواع الحروب هي الحروب الدينية وأفظع صور الاقتتال هو الذي يحدث باسم الدين والمعتقد، وأقذر الحروب الكلامية هي التي تشن بتبريرات الدفاع عن الدين والمعتقد، وأفسد النقاشات هي التي يراد بها الغزو الديني والمذهبي، وأعقم الحوارات هي تلك التي تقام والنفوس تكره بعضها بعضا ولا تريد الخير لمن يتحاور معها.
كل ما يُقال من سلبية عن الكراهية الدينية، وكل ما يكتب عما تحدثه من فتن وبلاءات اجتماعية هو حق وليست فيه مبالغة، فهناك عدة عوامل تجعل الكراهية الدينية بهذا الحجم من الأثر السلبي على المجتمع، فمن هذه العوامل التي يمكن ذكرها وباختصار هي:
1- ما تفعله الكراهية في النفس الإنسانية هو تعطيل للقوى الإنسانية ومحاصرة لمنابع ومصادر الخير والرحمة عند الإنسان، وإذا كانت الكراهية على درجات في قوتها وشدتها فإن للكراهية الدينية الأعلى من تلك الدرجات، فالدين هو شأن مقدس بل هو أقدس المقدسات، وبالتالي فالاعتقاد خطأ بأن الدين هو مَن يدعو إلى هذه الكراهية يجعل لهذه الكراهية حالة من القداسة تجعلها في صلب المعتقد ومن أولى أوليات الدين ومن ضروريات المذهب، وهنا تكمن الخطورة وتفعل الكراهية فعلتها في تحطيم كيان المجتمع. فالمجتمع المريض نفسيا بداء الكراهية الدينية هو مجتمع مجنون، والجنون هي حالة عبث وفوضى متواصلة ومستمرة.
2- إن الكراهية تعني الطرد والإقصاء لوجود ذلك الإنسان المكروه في داخل النفس الكارهة، والحب هو العكس لأن فيه تعزيزا لمكانة ووجود ذلك المحبوب في نفس الإنسان المحب. والكراهية هي حالة طفيلية على النفس الإنسانية وتغذيها ثقافة ذلك الإنسان والمجتمع، وكلما كانت هذه الثقافة مشبعة بقيم وقناعات تدعو إلى الكراهية، فإن هذه الكراهية تتضخم ويزداد حجمها وتستولي على النفس، وينتقل الطرد والإقصاء من حالة نفسية داخلية إلى ممارسة فعلية في الواقع. ولما كان الدين هو الذي يشكل معظم ثقافتنا العربية فإن الكراهية الدينية والتي نتحمل وزرها نحن كمجتمع وكثقافة وليس الدين هي من أشد المواضيع خطورة، ويجب أن تعالج بخطوات جريئة تنقي الدين من قراءاتنا الخاطئة وتحفظ لثقافتنا دورها الإيجابي في تعزيز المحبة والسلام في مجتمعاتنا.
3- إن الكراهية ما سبقت شيئا جيدا إلا عطلته وما صاحبت شيئا خيرا وحسنا إلا أفسدته، ولما كانت مشاكلنا الاجتماعية هي في معظمها لها أساس ديني أو مذهبي أو طائفي، وهذا الحال أسهم وبشكل كبير في تعطيل الحراك التنموي في مجتمعاتنا، وأنتج لنا أجواء ومناخات تساعد على انتشار الممارسات الفاسدة في حياتنا، فإن الاجتهاد في سد باب الكراهية الدينية على المستوى التربوي والتعليمي والإعلامي هو من أجل إنقاذ مجتمعاتنا، وعلينا أن نضعها على أعلى سلم أولوياتنا الإصلاحية، فلن تنجح الجهود لإصلاح مجتمعاتنا ما لم نهزم الكراهية الدينية ونطردها من ثقافتنا العربية.
فالكراهية الدينية هي تشويه لإنسانية الإنسان، وهي أكبر مصدر لتخريب المجتمع، وفي هذا الإطار يحق لنا أن نستبشر بالجهود الخيرة التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين لمحاصرة الكراهية الدينية على المستويين المحلي والعالمي من خلال رعايته المتواصلة للحوار بين المذاهب والأديان، وكلما استطاع العلماء والمفكرون والعقلاء من المذاهب والأديان أن يتواصلوا في حواراتهم ولقاءاتهم، وأن يعززوا من أجواء الثقة فيما بينهم، فإن المجتمعات ستتلمس آثار ونتائج هذه الحوارات واللقاءات بتعزيز أجواء المحبة والتواصل الاجتماعي، وللحديث تتمة ...