المصرفية الإسلامية في ظل نظام رأسمالي
في خضم الأزمة المالية العالمية الحالية تظهر كتابات كثيرة تحاول تفسير ما حدث وتحاول اقتراح الحلول لما يجب أن يحدث لتجاوز هذه الأزمة، وربما حاول بعضها استشراف المستقبل لاستشفاف الآثار البعيدة لها. على أن من أعجب ما قرأته عن هذه الأزمة كتابات لبعض الكتاب المسلمين في هذه الصحيفة وغيرها تحاول الدفاع باستماتة عن صلاحية النظام الرأسمالي وتزعم ألا علاقة لما حدث بالربا الذي حرمته كل الشرائع السماوية وربما غير السماوية أيضاً. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إنماً تجاوزه إلى محاولة إسقاط أسس النظام الرأسمالي على الاقتصاد الإسلامي، والزعم أنه لا توجد فوارق جوهرية بينهما، وأن هذه الأزمة كما حدثت في النظام الرأسمالي يمكن أن تحدث في النظام المصرفي الإسلامي. ومن المكثرين من الكتابة في هذا الموضوع في هذه الصحيفة الدكتور أنس بن فيصل الحجي. فقد كتب سلسلة مقالات جادل فيها ألا علاقة للأزمة بالربا، وأن ما حدث هو نتيجة ما سماه "التنظيمات الاشتراكية" التي فرضتها الحكومة الأمريكية على النظام المالي الأمريكي. ثم ساق مثالا في أحد مقالاته، وأظنه الأخير، يوضح كيف أن بنكاً إسلامياً يقدم تمويلا لآخرين يمكن أن يخسر، فإذا استشرت هذه الخسائر في النظام المصرفي الإسلامي فهو عرضة لما تعرض له النظام الرأسمالي. وفي مقالي هذا وغيره لست في معرض الهجوم على أحد، إنما ذكرت الدكتور الحجي لأنه ممن أكثر في كتابة المقالات عن هذا الموضوع.
وبادئ ذي بدء فلا بد من التوضيح أن ما حدث لم يكن مجرد خسائر ضخمة لمؤسسات مالية هائلة الحجم، لم يكن في ظن أحد أنها يمكن أن تفشل، ولكن ما حدث هو أبعد من ذلك بكثير. إنه اهتزاز الثقة بالنظام المالي الرأسمالي كله والفلسفة التي يقوم عليها. لذلك فإن من التبسيط الشديد ومحاولة الهروب من الاعتراف بالحقائق محاولة عزو هذه الأزمة إلى تنظيمات طارئة على النظام أفسدت عمله، ثم محاولة تعزية النفس بالزعم أن ما حدث لهذا النظام يمكن أن يحدث في ظل أي نظام آخر دون الالتفات إلى الفروق الجوهرية في الأسس الفلسفية التي يقوم عليها كل نظام، فضلا عن الظروف الموضوعية المحيطة بالنظام المراد تقويمه.
إن التنبؤات التي ساقها الدكتور الحجي لإثبات أن الأزمة ليست مفاجئة هي حجة عليه وعلى من يرى رأيه. فإنه كانت هناك هذه النبؤات، وقد كانت موجودة بالفعل، وقد سبقها كثير مثلها في كتابات علماء اقتصاد غربيين كبار، ماتوا قبل أكثر من 50 عاماً من أمثال جون ماينارد كينز وجوزف شومبيتر، فلماذا لم يستطع القوم تدارك الأمر؟! إن تفسير ذلك هو أن الإنسان حينما يحاول الاستغناء باجتهاده عن تشريع خالقه يفقد البوصلة التي تهديه سواء السبيل، وبالتالي يكون عرضة لمثل هذه الأزمة وغيرها.
إن المراوحة بين تنظيمات مختلفة تؤدي إلى نتائج متناقضة تؤذي النظام الاقتصادي والنسيج الاجتماعي، ما هي إلا مظهر من مظاهر التخبط الذي أشارت إليه الآية الكريمة "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا".
يقول الدكتور الحجي إن التدخل الحكومي الأمريكي المبالغ فيه هو السبب في الأزمة، ولكن آخرين، وبعضهم من كبار مسؤولي شركات المحاسبة في أمريكا، يقولون عكس ذلك. والحق أنه لا تناقض بين الرأيين، فربما كانت هناك مبالغة في بعض التنظيمات وقصور في تنظيمات أخرى، ولكن مالا يقوله الدكتور الحجي أن هذه التنظيمات هي أمر تابع وعامل مساعد لتطبيق الأساس الأول للنظام المالي الغربي القائم على الفائدة، وأنه لو صلح أساس البناء لما انهار أعلاه! إن دفاع الدكتور الحجي المستميت عن النظام الرأسمالي يعني وكأنه لا يوجد أي عيب في أسسه. وإذا كان الأمر كذلك فلم البحث في نظام مصرفي إسلامي أو غير إسلامي؟
أذكر أن أحد أساتذتنا في المرحلة الجامعية، وكان أمريكيا، قال لنا "إن الألم أمر سيئ، ولكن له فائدة واحدة، إنه ينبهنا إلى وجود خلل ما ولا بد من فعل شيء لإصلاحه". إن ما حدث هو صرخة ألم كبيرة من هذه المجتمعات تطالب بطرح أغلال هذا النظام واستبداله بغيره، إلا أنني لا أرى أن نهايته أصبحت وشيكة.
وعندما يتساءل بعض الناس عن إمكانية حدوث أزمة مالية مماثلة للبنوك الإسلامية فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: عن أي نوع من البنوك الإسلامية نتحدث؟ هل نتحدث عن الصورة المثالية للبنوك الإسلامية؟ هذه الصورة غير موجودة لأن الإسلام ليس في موقع القيادة في عالم اليوم، ولأن الصورة المثالية تتطلب بيئة اجتماعية، اقتصادية، وسياسية إسلامية، أي أن الصورة المثالية للبنوك الإسلامية لا يمكن أن توجد إلا ضمن مجتمع إسلامي في كل نواحي الحياة، لا بل وضمن بيئة عالمية مواتية تتقبل الأحكام العامة للإسلام، ولكننا إذا تحدثنا عن البنوك الإسلامية في عالم الواقع اليوم، فإن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: عن أي واقع نتكلم؟ فهناك تجارب مختلفة تختلف باختلاف المجتمعات قرباً وبعداً عن النظام العام للإسلام. ليس هذا فحسب، فهناك البنوك التي تلتزم وتلزمها سلطة إقليمها بالضوابط الشرعية والمحاسبية التي أقرتها المجامع الفقهية، وهناك بنوك تسمى إسلامية لا تلزمها سلطة إقليمها ولا تلتزم بهذه الضوابط، إنما تسير وفق رؤى تبتعد قليلا أو كثيراً عما هو مقبول لدى عموم الفقهاء. بناء على ما سبق فإن إعطاء أحكام جزافية عما هو محتمل حدوثه أو غير محتمل يكون من قبيل إسقاط نتائج واقع لا تملك له البنوك الإسلامية دفعاً من ناحية، فضلا عن أن نتائج المقارنة بالتجربة الغربية تختلف باختلاف نوع النظام البنكي الإسلامي المراد تقويمه من ناحية أخرى.
إن النظام المالي في عالم اليوم أعقد كثيرا من مجرد تمويل امتلاك بيت أو فتح متجر. لذلك فإن المثال الذي ساقه الدكتور الحجي لإثبات إمكانية تعرض النظام المصرفي الإسلامي لهزة مماثلة لا يصلح لاستنتاج حكم عام ينطبق على كلا النظامين.
إن الحكم الموضوعي على أي نظرية أو نظام يتطلب توافر الشروط العملية التي يتطلبها قيام النظام، ولا يكون الحكم ذو قيمة إذا كانت الظروف المحيطة هي نتاج نظرية أخرى أو نظام آخر. وعلى الرغم من عدم توافر الشروط المثالية في الوقت الحاضر لعمل البنوك الإسلامية خاصة، والنظام الاقتصادي الإسلامي عامة، إلا أنه يمكننا القول، وبكل ثقة، إن حدوث أزمة مالية كبيرة جداً كهذه مستحيل الحدوث في ظل أي نظام إسلامي مهما كانت درجة القصور في تطبيقه. السبب في ذلك أن هناك أحكاما شرعية عامة مجمعا عليها تمنع كثيراً من العقود المعمول بها في عالم المال اليوم كالإقراض المباشر بالفائدة أو غير المباشر كبيع الديون أو البيع على المكشوف. وهذا لا يعني أن البنوك الإسلامية لا يمكن أن تخسر أو أن الأزمات الاقتصادية لا يمكن أن تؤثر فيها إطلاقاً أو ليست القاعدة الأساسية في مجال المال والأعمال في الإسلام أن "الغنم بالغرم"؟، أي أن من يرجو الربح لا بد أن يتوقع الخسارة، ولكن حدوث خسائر في النظام شيء وتعرض الفلسفة التي يقوم عليها النظام إلى هزة عنيفة توجب إعادة النظر في أسس النظام شيء آخر.
إن الوضع الأخير هو ما حدث بالنسبة للنظام المالي الغربي بصورة خاصة ومجال الفلسفة الاقتصادية للنظام الرأسمالي بصورة عامة. ولو كان ما حدث أمرا يمكن للنظام أن يتعافى منه من تلقاء نفسه، لما تنادى العالم لتدارك هذا الحريق، ولما أعلن بعض أساطينه نهاية عصر الرأسمالية ونهاية الزعامة الاقتصادية لأمريكا كما نعرفهما.
إن ما لا يدركه البعض هو أن العالم يمر الآن بمنعطف تاريخي، أحد مؤشراته وأسبابه هو هذه الأزمة المالية العالمية، "والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون".