"مجاناً"

في مطلع الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي شهدت موانئ المملكة البحرية أزمة خانقة ما دعا الحكومة إلى تبني برنامج توسعة شاملة لتلك الموانئ بتكلفة بلغت نحو (18) مليار ريال أبرمت وزارة المواصلات عقود تنفيذها في تواريخ متقاربة في منتصف عام 1976م. وقد تلا ذلك بعد أسابيع قليلة إسناد ملف الموانئ إلى مؤسسة عامة مستقلة. وقد شملت تلك العقود توسعة ميناء الملك عبدالعزيز في الدمام، ميناء جدة الإسلامي، ميناء ينبع التجاري، وميناء جازان. كما شملت إنشاء ميناءين جديدين في الجبيل هما الميناء الصناعي والميناء التجاري.
كان نطاق أعمال تلك العقود واسعاً و متنوعاً إذ شمل أرصفة ومراس بحرية، مباني، ورش صيانة مجهزة، مستودعات وساحات تخزين مكشوفة، شبكات مياه وكهرباء، طرقاً، معدات ثقيلة، وغيرها. ومن ثم كان من المنطق أن يكون التعاقد مبنيا على مبدأ الكميات المقاسة Measured contract لا على مبدأ المبلغ المقطوع ، ماوفر مرونة جيدة للطرفين، لاسيما صاحب العمل، في إدارة العقد دون الحاجة إلى التفاوض على كل صغيرة وكبيرة.
وقد تجلت فوائد تلك المرونة عندما ظهرت الحاجة أثناء التنفيذ للتعامل مع المتغيرات التقنية الجديدة في سوق النقل البحري في وقت لم تكن ظروف العمل يومئذ في الموانئ السعودية وما شهدته من ازدحام و تكدس تسمح بأي تأخير في جدول تسليم الأعمال المتعاقد عليها لأي سبب كان . لذا آثرت الموانئ تلبية المتطلبات الجديدة باستخدام تلك المرونة التعاقدية من خلال إصدار أوامر تغيير Variation orders بأسعار العقد وشروطه نفسها بحيث تحل أعمال جديدة محل أخرى نص عليها في العقد إلا أنه لم تعد هناك حاجة لها.
غير أن العلاقة التعاقدية بين الموانئ والمقاولين لم تخل من خلافات قد تتفاقم أحياناً إلى حد يصعب على الاستشاري المشرف تسويتها لاسيما إن كان هو طرفا في ذلك الخلاف. من بين تلك الخلافات مانشب بين المؤسسة العامة للموانئ وبين مقاول توسعة ميناء الملك عبد العزيز في الدمام حول الطريق الرئيس لمدخل الميناء . إذ كان من ضمن أعمال العقد الذي بلغت تكلفته نحو أربعة مليار ريال إنشاء ذلك الطريق بطول يناهز (11) كيلومتراً لربط الميناء بطريق
الخبر- الدمام السريع . ومن الجدير بالذكر أن محور الخلاف لم يكن حول جوانب فنية من تصميم أو مواصفات، أو حول جداول الكميات والأسعار، بل كان الخلاف حول من يتحمل تكلفة إنشاء ذلك الطريق.
فبعد اكتمال مشروع التوسعة الذي استغرق نحو أربع سنوات، وبينما المؤسسة في مرحلة تصفية حسابات ذلك العقد بشكل نهائي ، فوجئت بمطالبة من المقاول على هيئة أمر تغيير معتمد من الاستشاري بجداول كميات يزيد مبلغها الإجمالي على 20 مليون ريال تقريباً مقابل تنفيذ طريق مدخل الميناء الذي كان من بين أولى الأعمال التي أنجزها المقاول في مطلع العقد . ولم يكن ذلك التقديم المتأخر للمطالبة وحده ما لفت انتباه المؤسسة ، بل لفت انتباهها أيضا عدم وجود جداول كميات أصلاً لتنفيذ الطريق ضمن العقد الأساس رغم أهميته مادعا الاستشاري لحساب جداول كميات له بشكل مستقل كإضافة لأعمال العقد لم تكن في الحسبان عند إبرامه.
لم تطل حيرة المؤسسة تجاه تلك المطالبة، التي بدت على ظاهرها أنها مشابهة لأوامر التغيير الأخرى المعتادة، إذ لجأت إلى فحص المكاتبات والمحاضر التي سبقت إبرام العقد بين وزارة المواصلات والمقاول، ومن حسن الحظ أن من بين تلك الوثائق، التي هي جزء من العقد ، كان هناك خطاب من المقاول يلتزم فيه" بتنفيذ أعمال طريق مدخل الميناء ضمن أعمال العقد" . وقد تمسكت المؤسسة بذلك الخطاب كمستند لرفض مطالبة المقاول محتجة بأن قيمة الطريق محملة على بنود العقد الأخرى التي سبق دفع قيمتها ، وأنه لو كانت هناك نية لدى الطرفين خلاف ذلك لتم النص عليها في العقد الذي أبرم في تاريخ لاحق للخطاب، وأن خلو العقد من أية جداول كميات مستقلة لأعمال الطريق، رغم وجوده ضمن مخططات المشروع، دليل قاطع آخر على سلامة موقف المؤسسة.
غير أن ذلك الموقف من المؤسسة لم يرق للمقاول كما لم يرق للاستشاري المشرف على تنفيذ العقد. فقد دفعا بأن ذلك الالتزام في خطاب المقاول لا يعني بأي حال من الأحوال أنه سيبني الطريق دون مقابل، وأن ليس هناك من يقدم عملا بمثل ذلك الحجم "مجانا" Free، واستندوا في دفاعهم إلى أن العقد بني على مبدأ الكميات المقاسة أي أن المقاول يستحق مبلغاً لقاء أي عمل يؤديه. هنا اختلفت المؤسسة مع كل من المقاول والاستشاري على استخدام كلمة "مجاناً" في ذلك السياق. إذ لا يمكن تسمية بناء الطريق بأنه كان مجاناً بعد أن دفعت الموانئ للمقاول قيمة العقد بكاملها محملة عليها تكلفة الطريق. ربما كان يمكن القبول بتلك التسمية لو أن علاقة المقاول بالموانئ اقتصرت على بناء الطريق لا غير.
وقد استمر الأخذ والرد بين الطرفين لعدة شهور دون الوصول إلى اتفاق رأى المقاول إثرها تقديم شكوى لديوان المظالم ضد المؤسسة انتهت بصدور حكم نهائي برد دعواه وتأييد الدفع الذي قدمته المؤسسة في تفسيرها التزام المقاول بناء الطريق ضمن قيمة العقد. أي أن الخلاف على تفسير "مجاناً" حقق وفراً للخزانة العامة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي