آن الأوان لتحمل المهندسين والمقاولين لواجباتهم أمام المواطن
طلب أحد الأصدقاء رأيي في توسعـة يريد إضافتها لمنزله، فكان السؤال البديهـي طلبي - مع معرفتي المسبقة بالجواب ـ لمخططات المنزل أو معرفة المهندس الذي صمم المنزل أو المقاول الذي نفذ فكانت الإجابة التقليدية منه بالنفي، علماً بأن المنزل لم يتجاوز عمره العقد أو العقدين. وهذا حال معظم مبانينا فمن النادر أن يعرف المهندس الذي قام بتصميم المبنى معمارياً وإنشائيا وصحياً وكهربائياً وداخلياً ومتطلبات الأمن والسلامة من أجهزة إنذار وسرقة وحريق. ومن النادر أيضا أن يعلم من المقاول أو الشركات التي قامت بتنفيذ المخططات إنشائيا وصحياً وكهربائياً، ولكنه من الأندر أن نجد مبنى قد تم تنفيذه في ضوء المخططات التي تم وضعها من المهندس ذي الخبرة والمهنية. وعلى النقيض من ذلك ففي الدول الأخرى (أوروبا وأمريكا وعلى وجه الخصوص) تجد أن مباني أعمارها عشرات السنين إن لم يكن مئات السنين قد تم حفظ جميع ما يختص بالمبنى تصميمياً وتنفيذياً.
وتعود مهمة حفظ الملفات في المقام الأول إلى مسؤولية المهندس والمقاول التامة أمام الجهات الحكومية وأمام المواطن لعدة أسباب رئيسية منها الحد من تدخل المواطن، ثم متطلبات لجان وجمعيات المهندسين والمقاولين، وأخيراً اتقاء لمطالبات شركات التأمين.
فيجب على المهندس والمقاول حماية المواطن من نفسه أولاً وذلك مع السماح له في مرحلة التصميم بإبداء احتياجاته وآرائه ولكن على المهندس أن يكون أعلم من المواطن نفسه فيما يصلح له ومتابعة المستجدات في التصميم والإنشاء ومواد التركيبات الصحية والكهربائية والتصميم الداخلي، وفوق هذا كله إلمامه التام بالميزانية المتوقعة لتنفيذ المبنى. فكما أنه لن تجد مواطناً يملي على طبيبه تشخيصه ونوع الدواء المناسب له، فيجب على المهندس أن يكون ذا علم ودراية وتجربة لمعرفة الأنسب والأفضل للمواطن. ويجب على المواطن ألا يقوم بدور المصمم والمنفذ فلن يستطيع اللحاق بمستجدات علوم التصميم والتنفيذ، وإن حاول ذلك فسيجد أن مقوله (أول بيت تجربة) ستستمر، إذ إنه حال اعتقاد المواطن خطأ إلمامه بأبجديات العمل الهندسي والمقاولات سيجد أن منزله شارف على الانتهاء ولتطبيق ما يعتقد أنه تعلمه لا بد له من ملاحقة التطورات والتغيرات الهندسية والبناء من جديد وهكذا.
أما المهندسون فيجب أن نعترف أن مهنة الهندسة ما زالت في مرحلة عدم اتزان أو حتى ضياع . فالطارئون على المهنة وقليلو الخبرة لا حسيب عليهم، وسوء خدمة المواطن لا رقيب عليها، والمبالغة أو ضرب الأسعار تجعل لا مناص للمهندس الذي يحترم المهنة سوى أن يترك السوق مكرهاً. فالملاحظ أن المخططات التي تسلم للمواطن أبعد ما تكون عن المعمارية المتعارف عليها مهنيا، بل هي فقط تقسيمات للغرف يترك للمواطن أو للمقاول تقديرها الإنشائي وموقع وعرض فتحات أبوابها وشبابيكها وموقع تمديداتها الصحية والكهربائية وأنظمة الأمن والسلامة ونوعية تشطيباتها وألوانها، مما يجعل المواطن يضطلع بدور المهندس والمقاول وحاسب الكميات والمصمم الداخلي.
وتظهر نتيجة ذلك بوضوح أثناء عجز المواطن مالياٍ عن إتمام تنفيذ المبنى وتركه عظما لسنوات، أو عند إتمام المبنى والبدء في فرش المبنى، من عدم تناسق بين أطوال الغرف والأثاث وبين الفتحات (أبواب ونوافذ) والتوصيلات الكهربائية والصحية والألوان والإضاءة وما إلى ذلك. وإن كانت أخلاقيات المهنة الهندسية تنبع من المهندس نفسه إلا أن اللجان والجمعيات الهندسية عليها حمل كبير في سبيل تنظيم مهنة الهندسة وعلاقاتها بالمهندسين أنفسهم أولا والمواطن ثانياً، ومحاسبة المسيئين للمهنة. وفي حالة تقاعس تلك اللجان والجمعيات فإن (الرجال) سوف يخطون الميل الإضافي لتنظيم المهنة. ولنا فيما قامت بـه أمانة منطقة الرياض أخيرا أثناء اتصالاتها المتواصلة بالمهندسين (لتولي بعض المسؤولية في تنفيذ نظام فسح اليوم الواحد) بقيادة أمينها الأمير الدكتور عبد العزيز بن عياف وتوجيهات مهندسها الأول صاحب السمو الملكي الأمير سليمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، ووضع المهندسين أمام المسؤولية التي تمليها عليهم مهنتهم وضميرهم أمام الله ثم المواطن والجهات المسؤولة، لنا في ذلك مثالاً نحتذي به.
أما المقاول ـ وما أدراك ما المقاول ـ فمن النادر أن نجد مواطناً أتم مبنى بدون أن يغير مقاوليه أو على الأقل لم ينشأ نزاع بينهم. فإذا استثنينا شركات المقاولات الكبرى التي أثبتت وجودها في السوق منذ عقود، والمقاولين ذوي الضمائر الحية، فمعظم مكاتب المقاولات الموجودة لدينا تقوم على عمالة متغيرة قد تفتقد أبجديات مهنة التنفيذ المحترف من نجارين وحدادين وسباكين وكهربائيين مما يجعل التنفيذ سيئاً ومن دون مخططات لا يعلم ما نفذوه إلا هم. فالعقود تتم مؤقتا بين المكاتب وبينهم من الباطن، وتنتهي بانتهاء العمل وبلا أدنى توثيق للتنفيذ والمخططات الموضوعة وبالتالي المسؤولية. أما في حالة نشوء اختلاف بين المواطن والمقاول (أو العكس) فلا جهة يتم الاختصام إليها للبت في الأمر بسرعة تجنب المواطن والمقاول تعطيل حقه في مشروعة لعدة أشهر إن لم يكن سنوات، فالذي يطلب من اللجان في الجمعيات الهندسية مطلوب بشكل أكبر من اللجان والجمعيات للمقاولين.
إن مهندسي ومقاولي العالم المتقدم نظموا ذاتياً مهنتهم لدوافع عدة منها أخلاقيات المهنة والحفاظ على مصادر رزقهم وعلى رأسها اتقاء شر متطلبات شركات التأمين فعند وقوع خطأ تقني من المهندس أو المقاول فإن شركات التأمين تقوم بتقدير الضرر والجهة المسؤولة عنه وتحمل المسؤول مبالغ طائلة لصالح المواطن والمجتمع، وتقوم نقابات المهندسين والمقاولين في حال ثبوت مسؤولية منسوبيها بدفع تلك التكاليف نيابة عن أعضائها مقابل عقوبات على المهندس أو المقاول تصل إلى سحب رخصة مزاولة المهنة من المتسبب، مما يجعل المهندس والمقاول يفكر مراراً قبل أن يرتكب خطأ وإن تم إخفاؤه عن مراقب البلدية أو المواطن لسنين، فالنتيجة معرفة أصحابه عاجلا أو آجلا بذلك وسحب ترخيصه للأبد، وإن كان الخطأ ببساطة تغير ارتفاع درجة تسببت في سقوط من يـمر عليها.
الخلاصة
إن من أبجديات العمل الهندسي والمقاولات عند تنفيذ أي مبنى معرفة المصمم والمنفذ والاحتفاظ بوثائق المبنى بعقود للرجوع إليها عند الحاجة في توسعة وترميم المباني أو في حالة حدوث خطأ تقني أو ضرر على المستخدمين، وتقوم النقابات واللجان والجمعيات الهندسية والمقاولين بذلك الدور حماية للمهنة وأخلاقياتها من المندسين وحماية لجودة المنتج وسلامة المستخدمين، واتقاء لمقاضاة المواطن والمستخدم والمجتمع أمام القضاء وشـركات التأمين. إن غياب أي من تلك المنظومة يؤدي إلى غياب معرفة مصمم ومنفذ المبنى وبالتالي محاسبته في حالة وجود أخطاء.