الفتنة المالية والاستثمار العقاري

دوى هدير الأزمة المالية الأمريكية في أنحاء المعمورة, وارتدت أصداؤه تصيب الأسواق المالية شرقاً وغرباً, القوي منها والضعيف, بحالة من الهلع والفوضى والغموض ترى نتائجه في الهبوط الحاد في الأسواق المالية العالمية (أسواق الأسهم تحديداً أو بداية). ومن سؤال أهل العلم والخبرة في ذلك الحدث ومدى تأثيراته في مستقبل الاستثمار (فالواقع تتم مشاهدته الآن), يجد المشاهد نفسه حيران بين التحليلات والتخمينات والتوقعات لما حدث ويحدث وسيحدث. فيجد أنه راوحت تحليلات أهل الاختصاص لصدى الأزمة المالية داخل أمريكا وخارجها بين التأثير الفعلي لما حدث في الأسواق المالية الأمريكية (الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية والبيع بالآجل), وبين التأثير النفسي لتلك النتائج الأمريكية في باقي الأسواق العالمية (فجعة الذيب ولا قتلته), وبين السياسات الأمريكية والعالمية التي تبعت أو تتبع لإدارة المخاطر المالية (تعديل معدل الفائدة, مراجعة معدلات الضرائب, شراء الأصول المتعددة). ويمكن تشبيه تلك التحليلات والتخمينات والآراء بما يدور أثناء "الفتنة" التي يحار فيها اللبيب في مكمن الحق وكيف نشأت وكيف ومتى الحل وانتهاؤها. ومن المشاهد في الأيام القليلة الماضية أن تلك الفتنة طالت (والمشتكى إلى الله) أسواق الأسهم السعودية بعنف غير مبرر إلا بالتأثير النفسي فقط (حتى الآن على الأقل). ويتوجس المستثمرون العقاريون المحليون خيفة من مدى الضرر الذي ستلحقه تلك الأزمة بالاستثمارات العقارية الإقليمية والمحلية, خصوصاً أن أول مؤشرات الأزمة المالية الأمريكية كان أزمة الرهن العقاري الأمريكي.
إن الاستثمار العقاري إحدى القنوات الاستثمارية المهمة والمؤثرة في الأسواق العالمية والمحلية. من إحدى أهم طرق التحليل للاستثمار العقاري الطريقة "الكلاسيكية" والمعمول بها ( إلى أن تخلى عنها أخيرا شباب ومغامرو الأسواق المالية الأمريكية في بداية الألفين الميلادية) . فالنظرة الكلاسيكية, التي تقف حالياً كإحدى النظرات المهمة, ترى أن أهم خصائص الاستثمار العقاري:
1 ـ حراك الاستثمار العقاري يتطلب وقتاً طويلاً للارتفاع أو الانخفاض, وهو أشبه ما يكون ببارجة عملاقة أو شاحنة كبيرة تحتاج إلى وقت طويل للحركة أو التوقف, ولا يشبه إطلاقاً السيارات الرياضية الصغيرة التي يمكن الانطلاق والتوقف والمناورة بها في غضون ثوان.
2 ـ الاستثمار العقاري وإن تم تمويله عالمياً، إلا أن الكلاسيكيين يرون أنه قطاع استثماري محلي يتأثر أولاً وأخيراً بالمؤثرات المحلية المباشرة ببساطة قانون العرض والطلب.
3 ـ من أهم مؤثرات قانون العرض والطلب:
أ) الدخل المتاح والسيولة المالية المتوافرة لدى الأفراد المستفيدين.
ب) مدى إسهام مؤسسات التمويل المالية المحلية الضامنة للاستثمارات العقارية.
ج) التضخم المالي وارتفاع الأسعار المحلية.
د) الأنظمة والقوانين المحلية الضامنة للاستثمارات العقارية.
ويرجع اختلال الأسواق العقارية الأمريكية إلى تخلي شباب ومغامري الأسواق المالية الأمريكية عن تلك الخصائص الكلاسيكية واختلاق صفقات عقارية وهمية وبيوع عقارية رمزية وإعادة بيع تلك الصفقات والبيوع لأسواق مالية أخرى أمريكية وعالمية تهاوت جميعها تبعاً عند أول هزة.
من تلك النبذة المختصرة نستطيع القول إن الاستثمار العقاري الإقليمي عموماً والسعودي على وجه الخصوص ما زال في طور الكلاسيكية, فالطلب ما زال مرتفعاً وإن كان هناك نقص في الدخل والسيولة المتاحة لدى الأفراد المستفيدين. أما عن إسهام المؤسسات المالية المحلية في الاستثمار العقاري فكان ولا يزال أقل بكثير من المأمول, وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم, هذا إضافة إلى كلاسيكية تلك البنوك والقنوات الممولة المحلية في تعاملاتها (الآن سمة إيجابية) والمقصورة على الادخار والإقراض المحلي, والاعتقاد أنها لم تقع في شرك المغامرات الاستثمارية غير المضمونة تماماً (الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية وبيعها بالآجل), وإن كان البعض ينادي بالشفافية في سرعة الإعلان عن معاملاتها المالية أخيرا وإعلان ضررها من عدمه جراء الأزمة العالمية, قطعاً لدابر الشك ولكي يطمئن قلبي . أما الأنظمة والقوانين المحلية الضامنة للاستثمارات ( الرهن العقاري) فما زالت قيد الدراسة وفي كل تأخيرة خير.
لذلك, فالاستثمارات العقارية المحلية تحديداً والإقليمية (دول الخليج) عموماً يمكن تقسيمها إلى قسمين رئيسين حسب تأثرها من تلك الأزمة: الاستثمارات العقارية ذات الحاجة والاستثمارات العقارية الكمالية. فالاستثمارات العقارية ذات الحاجة المباشرة للمواطن التي ما زالت في متناول يده مالياً مثل السكن من أراض مطورة ووحدات سكنية, فلن تتأثر أسعارها بشكل محسوس, فالطلب يفوق العرض واقتصادياتها محلية بحتة, ولم يتم التعامل في تحويلاتها المالية بالطرق العالمية المستحدثة حتى الآن (الأمريكية تحديداً) . لذا فمن المتوقع ألا تطولها تلك الأزمة, في القريب العاجل على الأقل. أما الاستثمارات العقارية الكمالية, فهي الأراضي والمشاريع التي تأتي ثانوية لحاجة المواطن مثل شقق الترفيه والاستراحات, وذات الاستخدامات التجارية والترفيهية والمكتبية فقد تجاوزت أسعارها قبل الأزمة المالية الحالية الحد المعقول استثمارياً, وستجد الأسعار في تلك الأزمة سبباً أو عذراً مباشراً أو غير مباشر لتصحيح تلك الأسعار والعودة بها كحد أدنى إلى المعادلة الكلاسيكية: ناتج الاستثمار يساوي من 7 في المائة إلى 10 في المائة من رأس المال وينطبق التوجس نفسه ولكن بشكل أكبر على مشاريع التطوير العقاري ذات الصفة الكمالية التي لم تهدف إلى حاجة المواطن المباشر, وبالذات التي لم تراع احتياجات متوسطي الدخل, ولا يعرف تحديداً السبل التي اتبعت لتحويلها محلية أو عالمية.
الخلاصة
لا يختلف ما تم ذكره عن الاستثمار العقاري المحلي ومدى تأثره بالأزمة المالية العالمية عن الحالة العامة السائدة, فيقع ضمن دائرة التخمين والتوقعات. فالفتنة المالية العالمية تجعل من الصعب تنزيل الدراسات والخبرات السابقة على الوضع الراهن, فهي فتنة مالية تجعل اللبيب حيران. وهنا استدرك مقولة أحد كبار السن حينما قال: "يا جماعة هذه فتنة باطنة, اذكروا الله وطولوا بالكم لين نعرف وش اللي صاير" .. فهل من الممكن ذلك في القرية العالمية؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي