جذور الاختلاف بين الأجنحة الدعوية والسياسية

[email protected]

سبق قبل أشهر قليلة أن ناقشنا في هذه المساحة العلاقة بين مفهومي الصلاح والإصلاح في الفكر الإسلامي الحديث، منذ بدايتها على يد الشيخ رفاعة الطهطاوي في مصر في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وتبلورها بعد ذلك على أيدي عديد من المفكرين والسياسيين الإسلاميين خلال هذه الفترة الطويلة، ونحاول اليوم استكمالها من زاوية أخرى جديدة.
الحقيقة أن أصل المفهومين ومعانيهما المختلفة يعود إلى القرآن الكريم الذي وردت فيه مشتقات متعددة من الفعل صلح. واللافت هنا هو أنه على الرغم من شيوع مصطلح الإصلاح في الخطاب الإسلامي في السنوات الأخيرة، فإنه لم يرد في القرآن الكريم بالتعريف سوى مرة واحدة في سورة هود في الآية 88 "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"، بينما ورد غير معرف بالألف واللام (نكرة) ست مرات أخرى, منها مرتان في سورة البقرة ومرتان في سورة النساء ومرتان في سورة الأعراف. أما فعل صلح بصيغه وبأزمنته المختلفة فقد ورد 34 مرة في القرآن، بينما وردت كلمة مصلحون بالجمع خمس مرات في آيات مختلفة.
والملاحظ أن مصطلح إصلاح في المرات السبع التي ورد فيها كان يعني في ثلاث منها الإصلاح العام في المجتمع بمعان مختلفة دينية واقتصادية واجتماعية، بينما ورد في مرتين في سياق الإصلاح العائلي بخاصة بين الزوجين وورد مرة واحدة بخصوص الإصلاح بين المتخاصمين ومرة أخرى بمعنى السلوك القويم للمؤمنين. أما كلمة مصلحون فقد وردت ثلاث مرات باعتبارها النقيض للمفسدين أو الفساد بمعانيه الدينية والأخلاقية ووردت مرة بمعنى الصلاح الديني ووردت مرة كنقيض للتجبر في الأرض في رواية قتل النبي موسى أحد المصريين. أما عن فعل صلح بصيغه وبأزمنته المختلفة فقد تنوعت معانيه في سياق الآيات التي ورد فيها بين المعاني السابقة كلها.
كما لاحظنا في المقال السابق، ففي الأغلبية الساحقة من المرات التي جرى فيها الحديث عن الإصلاح من مفكرين أو حركات إسلامية، لم يتضمن أي طرح لتغيير معناه على الصعيد الفردي، أو الصلاح، الذي ظل دوماً يعني تمسك الفرد بالأركان الرئيسة للإسلام وبتعاليمه في سلوكه وحياته الخاصة والعامة، بينما تغيرت لعدة مرات معاني ومضامين الإصلاح الجماعي من مرحلة إلى أخرى خلال القرنين السابقين ومن مكان إلى آخر في البلدان والمجتمعات الإسلامية. كما لاحظنا أن جميع المفكرين والحركات الإسلامية ربطوا بين الصلاح الفردي والإصلاح الاجتماعي الجماعي بصور مختلفة تنوعت من واحد إلى آخر ومن فترة إلى أخرى.
وهنا يظهر الجذر الحقيقي والعميق لما يمكن أن يطلق عليه التناقض بين المفهوم المتقدم والحديث أو شبه الحديث للإصلاح السياسي لدى كثير من الحركات الإسلامية المعتدلة وبين رؤيتهم المحافظة والتقليدية للإصلاح الاجتماعي والثقافي. وهنا أيضاً يمكن تفسير وجود أجنحة مختلفة داخل هذه الحركات تختلف حول درجة الإصلاح السياسي التي يجب الوصول إليها حسب المفهوم الإسلامي. فسيطرة مفهوم الصلاح الديني الفردي والجماعي على رؤية بعض قيادات وأعضاء هذه الحركات بما يتسم به من ثبات نسبي وقيام على تعاليم الإسلام، يدفعهم إلى التشدد تجاه كل ما قد يتضمنه الإصلاح السياسي ويعتقدون أنه يمس مضمون التقوى والطاعة وحسن الإيمان التي يجب أن يتضمنها الإصلاح الفردي. وبهذا المعنى، فهؤلاء يشكلون الأجنحة داخل تلك الحركات التي ترفض مساواة غير المسلمين أو المرأة مع الرجال المسلمين في الحقوق السياسية، حيث ينظرون إلى الأمر من زاوية ارتباطه بصلاحهم الفردي الذي يستمدون عناصره من التفسيرات الأكثر تشدداً له. أما الأجنحة الأكثر اعتدالاً فهي على الرغم من عدم فصلها بين الصلاح الفردي والجماعي والإصلاح السياسي، فهي لا تتبنى التفسيرات السابقة للأول وتنظر لمضمونه بصورة أوسع انطلاقاً من مقاصد الشريعة الإسلامية وليس من النقل الحرفي لأحكام انتهى إليها بعض الفقهاء في أزمنة سابقة. ووفقاً لفهم هذه الأجنحة الأخيرة، فإن مقاصد الشريعة الإسلامية يمكن أن تتسع لتشمل أكثر من الضروريات الخمس الكلية التقليدية، وهي ما لا يستغني الناس عن وجودها بأي حال من الأحوال، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. ويضيف هؤلاء إلى تلك الضروريات التقليدية أخرى جديدة من ضمنها الحريات العامة والمساواة وحقوق الإنسان وغيرها من مفاهيم حديثة، باعتبارها مما لا يمكن للناس الاستغناء عنه. وترى تلك الأجنحة أن تحقيق الإصلاح السياسي وفقاً لذلك الفهم الواسع للمقاصد يؤدي بالضرورة إلى الحفاظ عليها جميعاً وفي مقدمتها الدين الإسلامي, بما يعني تحقيق الصلاح الفردي والجماعي بالمعاني المشار إليهاً سابقاً، نتيجة لما يوفره الإصلاح السياسي من بيئة مناسبة لتحقيق هذا الصلاح بمستوييه.
ويبدو واضحاً هنا وفقاً لذلك أن الأجنحة المسماة السياسية داخل هذه الحركات الإسلامية تعطي أهمية أكبر للإصلاح السياسي لاعتقادها أنه يؤدي لقيام دول إسلامية قوية تستطيع أن تحمي الصلاح الفردي والجماعي الديني والثقافي والاجتماعي من التأثيرات القوية القادمة من المجتمعات الغربية. أما الأجنحة الدعوية فهي ترى أن الصلاح الفردي والجماعي بمعناه الديني والاجتماعي والثقافي هو الأولوية التي يجب البدء بها وإكمالها تماماً بما يؤدي مباشرة إلى تحقيق الإصلاح السياسي المنشود، وبما يحفظ المجتمعات الإسلامية من التأثيرات الغربية الضارة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي