تعديلات لائحة أعضاء هيئة التدريس خطوة مهمة لإصلاح التعليم
أحد أهم أسباب تراجع التعليم العام وتدهوره سلم المدرسين الذي لا يميز بين المحسن والمسيء، فالكل يحصل على المميزات نفسها بغض النظر عن مستوى الأداء، حيث لا يوجد في هذا السلم أي إمكانية لمكافأة المجد ومعاقبة المقصر، فالجميع يحصلون على العلاوة السنوية نفسها، والمدرس بعد تعيينه لا يتوقع أي ترقية مستقبلا، فأول قرار تعيين له هو آخر قرار له في هذا الشأن حتى نهاية حياته الوظيفية. هذا الوضع غير الطبيعي والمحبطين للراغبين في التميز تسبب في تدنى مستوى أداء المعلمين وأفقدهم كل حافز لبذل الجهد وأصبح معظمهم مكتفا بتقديم الحد الأدنى من الأداء فقط، ما تسبب في تدهور التعليم العام وجعله في تراجع مستمر رغم كل ما تنفقه الدولة على قطاع التعليم.
كادر أعضاء هيئة التدريس في الجامعات، ورغم أنه ليس بدرجة سوء سلم المدرسين، كونه على الأقل يحتوي على عدد من المراتب التي يتطلب الترقي عليها جهدا إضافيا، إلا أنه مع ذلك يظل غير محفز على التميز ولا يكافئ حسن الأداء بصورة كافية. وإلى جانب الضعف الإداري في الجامعات بسبب إلغاء الانتخابات يعتبر الكادر الحالي أحد أهم أسباب تدهور أداء الجامعات وتدني مستوى مخرجاتها، لذا فإن أبرز ما يميز التعديلات التي أقرت الأسبوع الماضي على لائحة أعضاء هيئة التدريس هو عنايتها الرائعة بالتميز ومكافأة كل عضو هيئة تدريس وفق مستوى أدائه.
ومن العجيب أن بعض التعليقات السلبية على هذه التعديلات تشتكي من كون هذه الزيادات غير شاملة لكل أعضاء هيئة التدريس، وأن العديد منهم لن يستفيد منها، في حين أن تميزها في الواقع هو في أنها مكافآت غير شاملة، وأن استحقاقها يعتمد على ما يبذله الأستاذ الجامعي من جهد يؤهله لنيلها. فهناك حافز للجهد التعليمي، وللعمل الإداري، وللتميز البحثي، ولاختيار التخصص النادر المفيد، وأخيراً حافز لمن يعمل في جامعة نائية تواجه الآن صعوبة شديدة في استقطاب أعضاء هيئة تدريس في ظل اللائحة الحالية. من ثم فهناك من سيستطيع الاستفادة من كل هذه الحوافز، وهناك من يستفيد من بعضها، وهناك دون شك من قد لا يستفيد من أي منها، والكل مستحق لم يحصل عليه.
وردة الفعل السلبية من بعض أعضاء هيئة التدريس في الجامعات ورغبتهم في أن تكون زيادات شاملة للجميع دون تمييز بين المجد والمقصر تُظهر، مع كل أسف، رغبة في عدم بذل أي جهد واستحساناً لرتابة وقصور الأداء. والحال الذي وصل إليه التعليم الجامعي لا يمكن أن يكون بأي حال في معزل عن مستوى أداء أساتذة الجامعات، وهي الحقيقة التي لا مناص من الإقرار بها، وأي تنظيم أو تعديل يسهم في تغيير هذا الوضع مطلوب بإلحاح ويجب دعمه وتأييده.
من جانب آخر، سيكون لهذه التعديلات تأثير إيجابي آخر لا يقل أهمية، وهو أن هذه الحوافز ستحد من الإغراء لترك العمل الأكاديمي سواء كان ذلك لوظائف حكومية أخرى أو حتى للعمل في القطاع الخاص. فالمتميزون من أعضاء هيئة التدريس سيفضلون العمل الأكاديمي على غيره من الأعمال، وسيكون المغادرون للجامعة هم الأقل تميزا أو من لا يرغبون أصلاً في الاستمرار في حقل التعليم الجامعي، وهؤلاء من الأفضل مغادرتهم وعدم بقائهم في سلك التعليم الجامعي، ولعل اللائحة الجديدة تحفزهم على ذلك.
أيضا ستكون هناك قدرة أكبر لاستقطاب الكفاءات من القطاعات الأخرى للانتقال للعمل في الجامعات، فمن يجد أنه قادر على الاستفادة مما يوفره التعليم الجامعي من حوافز مادية سيكون أكثر رغبة للانتقال إلى الجامعة، باعتباره سيكون الآن قادرا على تعويض حتى ولو بعض ما سيفقده من مميزات مالية في قطاعات أخرى من خلال أداء متميز في الجامعة.
إلا أن من المهم إدراكه أن فاعلية تعديلات لائحة هيئة التدريس تعتمد على أسلوب وعدالة تطبيقها، وعدم السماح للجامعات بالتحايل على ما يتم وضعه من ضوابط لها، وحتى لا تتحول هذه الحوافز إلى عطايا وهبات، ما يقضي على جدواها ويحد من تأثيرها الإيجابي في التعليم الجامعي. فليس من المستبعد، على سبيل المثال، أن تقوم الجامعات باحتساب العمل الإداري أو أي نشاط آخر بديلاً عن استكمال النصاب التدريسي، أو أن يحتسب النصاب التدريسي على أساس عدد من الشعب بصورة شكلية فيما يقوم عضو هيئة التدريس بدمج عدة شعب في شعبة واحدة، أو غير ذلك من الممارسات التي ستحد من جدوى وفاعلية تلك التعديلات في تحقيق الهدف الذي وضعت وصيغت من أجله، وما لم تقتنع إدارات الجامعات بأهمية ودقة التزامها بما يوضع من ضوابط، فستتحول هذه الحوافز تدريجيا إلى حق مكتسب يتساوى فيه المجتهد والمقصر.
لكي يدرك القارئ الكريم حجم الضرر الذي تسبب فيه سلم المدرسين على التعليم في السعودية فإن عليه أن يتصور شعوره لو أخبر عند التحاقه بعمله لأول مرة، أن عليه ألا يتوقع أي ترقية مستقبلاً، وأن قرار تعيينه هذا هو آخر قرار تعيين يخصه حتى نهاية حياته الوظيفية، بغض النظر عن أي جهد يقوم به أو كفاءة يبديها، وسيبقى على المرتبة ذاتها المعين عليها حتى يتقاعد، وأن جميع الموظفين في الجهاز الذي سيعمل به يحصلون على ميزات متساوية تماماً، بغض النظر عن مستوى أدائهم لا فرق في ذلك بين مجتهد ومتبلد، ولا يوجد لدى الجهاز أي إمكانية لمكافأة المجتهد أو معاقبة المقصر، والجميع يحصلون على العلاوة السنوية نفسها دون تمييز. قبل أن تشد شعرك أخي القارئ، وتقول هذا غير معقول ولا يمكن أن يوجد هيكل وظيفي بهذه الصورة المزرية المحطة التي تشجع على التبلد وعدم المبالاة، أقول لك لا تستعجل، فهذا هو بالضبط هو حال الكادر التعليمي أو ما يسمى سلم المدرسين في السعودية، المعمول به منذ ما يزيد على 25 سنة دون أي بادرة أمل في تعديله وإصلاحه.
فهذا السلم بصورته الحالية تنعدم فيه الحوافز للخاضعين له تماماً، فقرار تعيين مدرس يحمل الشهادة الجامعية على المستوى الخامس من السلم يعتبر أول وآخر قرار تعيين يخصه، وحتى نهاية حياته الوظيفية طالما بقي ملتحقاً بسلك التعليم، فهو لا يطمح إلى ترقية أو أي إمكانية لتحسين وضعه وفي هذا يتساوى المجتهد والمهمل الذي يقدم الحد الأدنى من الجهد دون أي تمييز يذكر. وفي حين نجد موظفي الدولة الخاضعين لأي من الكوادر الأخرى غير الكادر التعليمي يضعون دائماً نصب أعينهم الحصول على الترقية، ويجدون أنفسهم مضطرين إلى بذل مختلف الجهود ويحرصون على الالتحاق بالدورات التدريبية سعياً للحصول على ترقية، فإن المدرس يفتقر إلى هذه المشاعر والدوافع، بحيث يندر أن يلتحق مدرس بدورة تدريبية مثلاً وهو غير ملام في ذلك مطلقاً باعتبار أنه ليس هناك مصلحة يجنيها من ذلك. وغني عن القول إن كل موظف يجب أن تكون له طموحات وظيفية، خاصة إمكانية الترقي الوظيفي وفقاً لإمكانياته وجهوده، مما يوقد شعلة الحماس لديه للعمل بجد وتفان والحرص على تطوير خبراته ومهاراته، وعجز الكادر التعليمي في السعودية عن تحقيق ذلك ولد إحباطاً وشعوراً طبيعياً باللامبالاة لدى المدرسين، وحد من كل طموح أو رغبة في التميز، حيث لا يوفر الكادر أي إمكانية لمكافأة المتميز وتشجيعه. وكون الإنسان بطبيعته وبما جبل عليه لا يستطيع العيش دون طموح، فإنه سيبحث عن ضالته في مكان آخر كأعماله الخاصة أو في الجهود التطوعية أو أن يصاب بدلاً من ذلك بحالة من التبلد قد تبدو واضحة حتى على هندامه ومظهره الخارجي.
هذا الوضع غير الطبيعي تسبب في الواقع في تدهور التعليم العام في السعودية على الرغم من أن معدل الإنفاق على التعليم في السعودية يعتبر من أعلى المعدلات في العالم إن لم يكن الأعلى على الإطلاق، حيث تخصص الدولة للتعليم سنوياً ما يزيد على 25 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي أو 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، فافتقار المدرسين إلى الحوافز المناسبة وتفشي روح التبلد والإحباط بسبب تساوي العاملين دون أدنى تمييز للمجتهد والمثابر أو عقوبة المقصر والمهمل، تسبب بكل وضوح في إهدار ما تقوم به الدولة من جهد وما توليه التعليم من اهتمام بالغ. وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك هو مجرد تضخم مستمر في تكاليف رواتب المدرسين أثقل كاهل المؤسسات التعليمية، وجعلها غير قادرة على تلبية متطلبات العملية التعليمية الأخرى مثل المباني المدرسية والتجهيزات، بسبب أن الرواتب أصبحت تشكل الآن ما يزيد على 95 في المائة من ميزانيات مؤسسات التعليم العام، في ظل تراجع مستمر في نوعية مخرجاتها، وتدن في قدرتها على تزويد الطلاب والطالبات بالقدر المطلوب من التأهيل العلمي والمهني الذي يؤهلهم لمواصلة تعليمهم باقتدار أو الالتحاق بسوق العمل.
إن الخروج من هذه الدوامة يتطلب بث روح السعي إلى التميز في مربي الجيل من جديد من خلال إعطائهم حقهم الطبيعي المستحق، المتمثل في الطموح والرغبة في التطور مع كل ما يحمله ذلك من انعكاساته إيجابية مادية ووظيفية، لذا يلزم تعديل الكادر التعليمي بحيث يكون على شكل مراتب شبيهة بكوادر موظفي الدولة الأخرى، حيث تتم ترقية المدرسة وفقاً لمعايير الكفاءة والأداء وتطوير المهارات فيكافأ المتميز ويحرم المقصر، الأمر الذي سيكون له بالغ الأثر في رفع معدلات أداء المدرسين وتحسين مستوى تحصيل وكفاءة مخرجات التعليم، فأي إنسان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستغني عن أن يكافأ على جهده أو أن يمنح تمييزاً على من لم يبذل جهداً مماثلاً، وإن لم يضمن له ذلك فسيكتفي بتقديم الحد الأدنى الضروري وستهدر جراء ذلك موارد بشرية ومالية في غاية الأهمية لا لشيء إلا لأننا لا نملك الشجاعة اللازمة لتصحيح أخطائنا.