أزمة الإسكان الثانية قادمة لا محالة .. كيف نواجهها؟
كيف يمكن لنا أن نوفر للمواطن من ذوي الدخل المتوسط (معدل ما يملكه باقتطاع 33 في المائة من دخله ولمدة عشر سنوات يبلغ 300 ألف ريال) سكناً (تبلغ قيمته الآن ما معدله 350 ألف ريال للشقة و750 ألف ريال للفيلا الصغيرة). وبطلب على الإسكان يصل إلى ما معدله ألف وحدة سكنية يومياً (1.8 مليون وحدة للسنوات الخمس)؟!
قد تبدو هذه المعادلة لأول وهلة صعبة التحقيق، ولكن السعودية وبكل نجاح واقتدار تصدت لهذه المعادلة - مع اختلاف معطياتها حالياً – في فترة السبعينيات والثمانينيات الميلادية، حيث تم إنشاء أكثر من 3.2 مليون وحدة سكنية في فترة زمنية قلت عن عشر سنوات، نقلت المواطن السعودي من الخيمة والعشة وبيت الطين إلى المسكن الحديث، ومن القرية والمدينة التقليدية إلى الحي والمدينة الحديثة بكل ما تحتاج إليه من بنية تحتية ومرافق وخدمات وإنشاءات. وقامت الدولة حينها بتسخير جميع مواردها البشرية والمالية لقطاعاتها المختلفة الخاصة منها والعامة، المدني والعسكري لتلك المهمة متجاوزة ما يمكن تسميته (الأزمة السكانية الأولى).
والوضع الراهن في المملكة يشير إلى بدء بوادر أزمة إسكانية ثانية, حيث تشير الدراسات المتحفظة إلى الحاجة إلى 800 ألف وحدة سكنية, إضافة إلى ما معدله 250 ألف وحدة سكنية سنوياً للسنوات الخمس المقبلة وبمجموع كلي يصل إلى 1.8 مليون وحدة سكنية بنهاية الأعوام الخمسة المقبلة. ولبيان تلك الحاجة الماسة إلى الوحدات السكنية نستطيع القول إنه يجب بناء ما معدله ألف وحدة سكنية يومياً أو 41 وحدة في الساعة أو 0.68 وحدة في الدقيقة, أي أن القارئ الكريم بنهاية تصفحه هذا المقال يجب أن يكون قد تم الانتهاء من بناء وحدتين سكنيتين.
وللتصدي "للأزمة الإسكانية الثانية", التي ظهرت بوادرها فيجب أن نعلم أن معطيات تلك الأزمة تختلف جذرياً عن معطيات الأزمة الأولى, حيث إن الأزمة الأولى اعتمدت كلياً على الدعم الحكومي المباشر (مالياً وإدارياً) لمختلف احتياجات الإسكان مثل الأرض, البنية التحتية، والمرافق والخدمات، الإنشاءات بينما معطيات الأزمة الثانية مختلفة, فأسعار الأراضي ومواد البناء طاحنة وتعاني قلة الأراضي الحكومية في نطاق المدن, ما أدى إلى تحكم تجار العقار في الأسعار وتحول الاعتماد على الدعم الحكومي المباشر إلى القطاع الخاص تمويلاً وتنفيذاً.
إن معطيات الأزمة الثانية تشير إلى أدوار متبادلة بين المواطن والقطاع الخاص والقطاع العام ممثلة في هيئة الإسكان "كان الله في عونها". فدور المواطن بوعيه التام بأن توفير المسكن تخطيط استراتيجي طويل الأمد يتطلب تغيير نمط الادخار لفترة تزيد على عشر سنوات ناهيك عن تغير الصورة النمطية للمسكن (فيلا فخمة) لدى المواطن وجدولتها مرحلياً لتبدأ من شقة صغيرة وتنتهي بإذن الله إلى سكن فخم. ووقع المواطن تحت مطرقة الإعلام وسندان تجار العقار ومواد البناء والمؤسسات التمويلية لتأكيد الصورة النمطية, فالمسلسلات التلفزيونية والإعلانات تظهر صورة المسكن الفخم على أنه المسكن العادي الذي يستطيع المواطن متوسط الدخل الحصول عليه بكل يسر وسهولة.
أما القطاع الخاص ممثلاً في مؤسسات التطوير العقاري والتمويل فيجب أن تعي حجم الأزمة وتؤسس مؤسسات تطوير عمراني تواكب حجم المسؤولية تبتكر منتجا جيدا بأقل التكاليف, إذ إن الملاحظ في بعض المؤسسات الحالية أنها حادت عن أهداف التطوير العقاري لغرض طرحها في سوق الأسهم أو لمشروع عمراني محدد أو صغير الحجم. والمؤسسات التمويلية تبالغ في حجم المخاطر, وبالتالي عمولة وشروط إقراض الإسكان، وبالتالي تبالغ هذه المؤسسات في أرباحها التي تثقل كاهل المواطن.
أما القطاع العام (ممثلاً في هيئة الإسكان) فعليها آمال وتوقعات قد تفوق واقعها، ولكن من الممكن تفعيل دورها بأمور مثل إنشاء مجمع للمعاملات الإسكانية (إفراغ – فسوحات – خدمات – القروض – ... إلخ) أسوة بما قدمته الهيئة العليا للاستثمار للمستثمرين وما ستقدمه أمانة منطقة الرياض من (مسح اليوم الواحد), فالوقت هو المال ومن الهدر تطويل الإجراءات الإدارية الخاصة بالإسكان وبالتالي رفع تكلفتها كما بإمكانها تطوير المخزون العام للأراضي العامة (منح – أراضي دولة – مطارات) بالتعاون مع القطاع الخاص. ويجب عليها الضغط على المؤسسات المالية الخاصة لخفض نسبة الأرباح وزيادة الدعم الحكومي لمشاريع الإسكان الاستثمارية والخاصة وتفعيل آلية تنفيذ الرهن العقاري.
إن الأزمة الإسكانية الثانية قادمة لا محالة ولا يستطيع هذا المقال تقديم وصفة وحيدة للحل، ولدينا من الخبرات والإمكانات ما تم به تجاوز الأزمة الإسكانية الأولى بكل نجاح, فتكاتف المواطن والقطاعين العام والخاص واستشعار جسامة قرار تملك المسكن سواء بخفض تكلفة المسكن أو رفع قيمة الدعم للمواطن ستجعل من السهل التوافق بين تكلفة المسكن ودخل المواطن, وبالتالي حل الأزمة الإسكانية الثانية.
إن تجاوز الأزمة الإسكانية الثانية مطلب استراتيجي تبقى آثاره لعقود كاملة وتدعم المواطن مباشرة بما يشكل 30 في المائة من دخله وينتج عن سمات هذا العصر من غلاء وتضخم وأولية دعم الإسكان تجاوز دعم سلع استهلاكية تزول فائدتها المرجوة بزوال استخدامها, كما أنه بالإمكان بإذن الله تجاوز هذه الأزمة مسلحين بنجاح تجاوز الأزمة الأولى وبإمكانات أقل بكثير من وضعنا الراهن. إن تجاوز الأزمة الإسكانية الثانية يتطلب الاستفادة من الوقت والمال "والشراكة بين القطاعين العام والخاص" لتوفير سبل العيش الكريم لمواطن هذا البلد الكريم, وهو ما أكدته الخطة الخمسية الثامنة (مسكن لكل مواطن), وفوق ذلك نادى وينادي به خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ أيده الله.