من الذي ينصت إن كان الكل يتحدث؟ (1 من 2)
كثر الأطباء النفسيون، ويبدو أن زائريهم يتضاعفون أيضا في كل أنحاء العالم. ومن البديهي أن نستنتج أن المشكلات النفسية والوجدانية تتزايد في العالم ولذلك أسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا, ولكن ثمة سبب مهم جدا: الإنصات! فيدفع الكثيرون ثمنا عاليا ليجدوا من ينصت لهم باهتمام –وينصحهم أيضا- دون أحكام سابقة أو تأنيب, وهذا يشير إلى ندرة فن الإنصات...
لا أحسب أحدا منا لا يعاني هذه الآفة, ويكفي إلقاء نظرة على مجالسنا وما يدور فيها: الكل متلهف على الحديث ويراجع في رأسه ما ينوي قوله لإضحاك الجمع أو إبهارهم بعلمه و ذكائه, ونادرا ما يفكر أحد الجلساء في أن يصفي ذهنه للإنصات ولو لبرهة لعله يتعلم أو يستفيد. وتصبح بذلك خطوط الاتصال بين الناس شوارع متوازية ذات اتجاه واحد, أما التقاء أي اثنين في نقطة واحدة فهو احتمال بعيد جدا...
أو ما رأيكم في الأب الذي استقر في مكانه المعتاد أمام شاشة التلفاز يتابع الأخبار أو مسلسلا أو غيره, فيدخل ابنه ذو الأربعة عشر عاما وهو ممتلئ بالقصص و التجارب التي يتوق لأن يشاركه فيها أقرب الناس إليه. فيجلس الفتى إلى أبيه و ينطلق في الحديث, فيخبره كيف كسب فريقه في كرة القدم أو يقص عليه موقفا حصل له مع زميله. ولكن هل يحول الأب نظره عن التلفاز؟ أبدا,بل يخيل إليك أنه لا يستطيع أن يفعل وكأن عينيه ملصقة بالشاشة ولسان حاله يقول (إنني متعب جدا و "مالي خلق" ولكني سأتظاهر بأني أسمعك). ولكن قدراته التمثيلية لا تتجاوز تلك الأصوات التي يصدرها كل حين و آخر و التي تعني: نعم نعم,أكمل ..أو بالدارج "اخلص!". فكيف يشعر الابن في ظنكم؟ هل يحس أن أباه مهتم به و بحياته و تجاربه؟ هل يرغب بعد ذلك في أن يشرك والده في أفكاره و أحلامه و تساؤلاته؟ ثم كيف يتعرف الأب إلى ابنه ويتابع تطور شخصيته؟
هل انقطاع الخطوط بين الناس شيء طبيعي؟ لا أظن, بل أحسب الكثير من المشكلات الزوجية و العائلية والوظيفية ثمرة هذا الانقطاع...فما بالنا لا ننصت إذا؟
1.قد تكون قلة وعي بتقصيرنا في ذلك أو بأهمية الإنصات , فلا تركيز سواء في البيت أو في المدرسة على هذا الجانب من الاتصال الإنساني (في حين أن العالم ممتلئ بالدورات التي تطور ملكة الكلام و الإقناع و ما إلى ذلك).
2.قد تلعب الأنانية و شيء من الغرور دورا أحيانا, فكلامي أهم من كلام الآخر, إذا فليستمع هو لما أقول ولا داعي لاستماعي له... كيف تبدو هذه الجملة؟ أكاد أجزم أنها منفرة جدا لأي أحد يقرأها ولكن الحقيقة أن هذا لسان حالك إن لم تنصت لمن أمامك تمام الإنصات و توليه الاهتمام الذي يستحقه...
"ولكني أنصت للناس فعلا, فأنا أسمع ما يقولون."قد يراودك هذا الخاطر وأنت تقرأ كلماتي, ولكن ما أقصده يتجاوز وظيفة السمع البيولوجية التي يشترك فيها معظم الناس, بل تشاركنا بها الحيوانات...ما المطلوب إذا؟ هذا ما سنناقشه في المرة القادمة...