تحقيق التنمية المستدامة العالمية وهم
قمتا الأرض اللتان عقدتا في مدينة ريو دي جانيرو في البرازيل وجوهانسبرج في جنوب إفريقيا في عامي 1992 و2002 على التوالي، أرست القواعد والأساسيات، التي يمكن من خلالهما تحقيق التنمية المستدامة في جميع دول العالم دون التمييز في ذلك أو المفاضلة بين الدول المتقدمة والدول الناشئة.
من بين أبرز العناصر التي ترتكز عليها تحقيق التنمية المستدامة، (1) اجتثاث الفقر من العالم. (2) تحقيق العدالة الاجتماعية بين الأفراد في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك في مجالات العمل المختلفة. (3) المحافظة على سلامة البيئة. (4) المحافظة على الطاقة من خلال ترشيد استخداماتها. (5) ضمان الصحة العامة للجميع. (6) اتباع أفضل الوسائل والطرق والممارسات الزراعية، التي تعمل على مكافحة التصحر في الأماكن الجافة من العالم، وتحقيق التنوع الأحيائي، وتحسين إدارة النظم البيئية وتحسين أداء مصائد الأسماك.
من هذا المنطلق احتل موضوع تغيير أنماط الاستهلاك والإنتاج غير المستدام، أولويات أعمال قمة الأرض التي عقدت في جوهانسبرج، من خلال إحداث تغيرات جذرية في الأساليب والطرق، التي تدير بها المجتمعات إنتاجها واستهلاكها من أجل تحقيق التنمية المستدامة، والذي بدوره يتطلب إدارة قاعدة الموارد الطبيعية بصورة متكاملة يتحقق عنها التنمية المستدامة في جميع دول العالم.
قمة جوهانسبرج حملت كذلك العولمة مسؤولية المساهمة الفاعلة في تحقيق التنمية المستدامة في دول العالم، من خلال فتح فرص جديدة في مجالات التجارة والاستثمار وتدفقات الرساميل والتقدم التكنولوجي، بما في ذلك تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، ذلك بهدف تحقيق النمو للاقتصاد العالمي والتنمية وتحسين مستويات المعيشة لشعوب العالم جمعاء.
على الرغم من الجهود الكبيرة والمحاولات الجادة التي تبذلها قمم الأرض في سبيل تحقيق التنمية المستدامة في دول العالم جمعاء، بالشكل المتساوي والمتكافئ الذي يحقق الرفاه والعيش الكريم لشعوب العالم، بصرف النظر عن التباين الواضح في حجم اقتصادات دولها، إلا أن هذه الجهود لا تزال تواجه بالعديد من التحديات، التي لعل من أبرزها وأهمها قضايا الالتزام والتنفيذ للتعهدات والاتفاقيات والمبادرات، بما في ذلك التوصيات، التي تتمخض عن تلك القمم، الأمر الذي عادة ما يتسبب في تعطيل مسيرة تلك القمم ويضعف من قدرتها على تحقيقها لأهدافها التنموية المنشودة. هذا الإخفاق في تحقيق قمم الأرض لأهدافها التنموية، يرجع مرده إلى تضارب المصالح والتوجهات الاقتصادية والتنموية بين الدول الصناعية المتقدمة والدول الناشئة من جهة، وإلى هيمنة اقتصادات الدول الصناعية الكبرى على الاقتصاد العالمي من جهة أخرى، الأمر الذي يؤكده أن نحو 20 في المائة من عدد سكان العالم يسيطرون على مقدرات الاقتصاد العالمي ويتحكمون في توجهاته.
الكاتب فرانك تشنج في مقال نشر له في جريدة "الاقتصادية" في العدد 5400 بعنوان "فشل المؤسسات الدولية.. ألا يوجد نظام عالمي؟، أوضح الأسس التي بموجبها يمكن تحقيق التوازن بين الرغبات والتطلعات والطموحات المتباينة بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة، التي من بينها على سبيل المثال لا الحصر، تعزيز صوت وتمثيل الأقطار النامية في اتخاذ القرارات للمؤسسات الدولية المالية، وخصوصا في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، كما أن هناك حاجة إلى تعزيز تنسيق السياسات بين الاقتصادات المتقدمة والناشئة.
من بين الأمثلة على عدم قدرة العالم على التوفيق بين مصالح اقتصادات الدول المتقدمة واقتصادات الدول الناشئة، تعثر أخيراً مفاوضات اللجنة الوزارية في منظمة التجارة العالمية الخاصة في جولة الدوحة، التي انطلقت من الدوحة قبل سبع سنوات، بسبب الموقف المتصلب من قبل الدول المتقدمة وعدم تقديمها لتنازلات كافية للدول النامية بشأن ملفي الزراعة والمنتجات الصناعية، مما يعرض تلك المفاوضات باستمرار للفشل والإخفاق في تحقيقها لأهدافها المنشودة.
خلاصة القول، إنه على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها قمم الأرض في محاولة إرساء قواعد التنمية المستدامة في العالم، بهدف تحقيق رفاه شعوب الأرض وسعادتهم، إلا أنها تواجه باستمرار بوابل من التحديات، المرتبطة بتنفيذ القرارات والاتفاقيات والالتزامات، التي عادة ما تتمخض عنها، ذلك نتيجة للتباين الواضح بين المصالح الاقتصادية لدول وشعوب العالم، وبالذات بين دول العالم المتقدم ودول العالم الناشئ، كما أن هيمنة اقتصادات الدول الكبرى على مقدرات العالم الاقتصادية، يضاعف من حجم المشكلة، ويجعل من إمكانية التوفيق بين تلك المصالح أمر شبه مستحيل.
في رأيي أن الحل الوحيد للخروج من مأزق عدم قدرة المؤسسات والمنظمات الدولية التوفيق بين المصالح الاقتصادية المتباينة للدول الصناعية الكبرى والدول الناشئة، هو التأكيد على ضمان تساوي وتكافؤ الفرص بين الدول المتقدمة والدول الناشئة في جميع مجالات الحياة، ليشمل كذلك تبؤ المناصب والمراكز الإدارية بتلك المنظمات، وبالذات في ظل التغير الكبير الذي طرأ أخيرا على حجم وأداء اقتصادات العديد من الدول الناشئة مثال الاقتصاد الصيني والاقتصاد الماليزي، حيث أصبحت تلك الاقتصادات تمثل وزنا نسبيا ملحوظ بالنسبة للاقتصاد العالمي، كما أنها تمثل كثافة سكانية واستهلاكية لا يستهان بها.
إن الاستمرار في عدم قدرة المنظمات الدولية في التأكيد على إرساء قواعد ومبادئ العدالة الاقتصادية بين الدول المتقدمة والدول الناشئة، سيفاقم من حجم مشكلة عدم القدرة على التوفيق بين مصالح دول العالم الاقتصادية، وسيعمل كذلك على تعميق فجوة الخلاف فيما بينها، الأمر الذي بدوره سيتسبب آجلا أم عاجلاً في تبديد وضياع ثروات الدول الناشئة الاقتصادية، وسيجعل من تحقيق التنمية المستدامة في العالم وهما وضربا من ضروب الخيال، والله من وراء القصد.