كيف نقيس قوة الدولة في العصر الحديث؟
كانت القوة في الماضي تقاس بتعداد الجيش وتجهيزاته، لذلك كانت فارس والروم أقوى الدول في عصرها، وتغلبت عليها الدولة الإسلامية بناءً على قوة الجيش وسرعة انتشاره، لذلك حرصت الدول منذ ذلك العصر حتى وقت قريب إلى إظهار هذه القوة والعتاد في كل مناسبة، كاستعراض الجيش أمام الضيوف الأجانب، وتكرار الاستعراضات العسكرية، والتغطية الإعلامية الجيدة للمناورات والتجارب العسكرية. لكن لم تعد هذه المعادلة تعني كثيرا اليوم، وذلك لسبب بسيط: لم تفد هذه القوة الجبارة دولاً في أوروبا الشرقية من الانهيار رغم ترساناتها الهائلة. تستعرض قوة اليوم بطريقتين: عرض القوة الاقتصادية، وعرض عمودها الفقري: التعليم العالي.
القوة اليوم لا تقاس بالقدرة على قهر الأعداء، بل بالمنافسة العالمية، والاستقرار المحلي والعالمي. لا تحقق الترسانة الحربية وحدها الاستقرار (كما في مثال الاتحاد السوفياتي)، في حين يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، ومن ثم الاجتماعي والبيئي دون وجود هذه الترسانة، كما في اليابان، وألمانيا، وسويسرا.
لو استعرضنا القدرة العسكرية في العالم لوجدنا أن أقوى عشرة جيوش في العالم (بمقياس عدد القوات والقوات المساندة) هي على الترتيب (حسب دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن - 2006): كوريا الشمالية (259 من كل 1000 مواطن)، ترانسنستريا (185 من كل 1000 مواطن)، إيران (181 من كل 1000 مواطن)، عمان (133 من كل 1000 مواطن)، سنغافورة (117 من كل 1000 مواطن). ولكن بالنظر لاقتصادات العالم فسنجد قائمة مختلفة تتصدرها (حسب تصنيف البنك الدولي) بالنظر لمعدل النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي للفرد على الترتيب: لكسمبورغ، النرويج، سان مارينو، أيسلندا، وأيرلندا. وتبين التصنيفات العالمية مواقع أفضل جامعات العالم بالنظر للجوائز العالمية، وتسجيل براءات الاختراع عند أعضاء هيئة التدريس، ونوعية البحوث المنشورة، ومعدل الطلاب إلى الأساتذة، وميزانية الجامعات وغيرها من المعايير، ومن هذه القوائم تصنيف شانغهاي، الذي يبين أنه من بين أفضل 100 جامعة في العالم تعود 54 منها للولايات المتحدة، 11 للمملكة المتحدة، 6 لليابان، 6 لألمانيا، 4 لكندا، 4 لفرنسا، 4 للسويد.
الذي ترسمه الأرقام أعلاه بسيط: الدول التي تحتل القوائم الاقتصادية، وقوائم الجامعات تقود العالم. مع اعترافي بوجود كثير من المتغيرات، إلا أنه من غير المتوقع أن يكون دخل الفرد وحده معياراً، حيث لا ينعكس ذلك على مشاريع بناء حقيقية تضمن استمرار هذا الدخل دون النظر للمتغيرات الاقتصادية العالمية. ومن هذا المنطلق تستحث الهند خطاها نحو مستقبل مشرق، حيث يتمتع اقتصادها بالاستقرار، ولكن سياسات التعليم العالي لديها انتهجت سياسة تطويرية، برزت في التصنيفات العالمية، فدخلت جامعتان بها قائمة أفضل 400 جامعة في العالم (حسب تصنيف شانغهاي - 2007)، وقبل ذلك بسنتين فقط لم يكن في القائمة إلا جامعة هندية واحدة، ومن المتوقع صعود هذا الرقم في السنوات القادمة بشكل ملحوظ ومطرد.
الترجمة العصرية للاستعراضات العسكرية وإظهار القوة العسكرية، تحول إلى أرقام خلف شاشات. بدعم الاقتصاد الوطني والتعليم العالي.
ولعلي لست في حاجة لإيضاح الترابط الشديد بين سياسات التعليم العالي التحديثية والتنافسية واستقرار الاقتصاد الوطني وقدرته على المنافسة العالمية. لم يعد الإنفاق الحكومي على التعليم العالي من باب الخدمة الاجتماعية، أو الخدمة الوطنية التي تقدمها الحكومات لشعوبها، بل هو استثمار يؤدي بشكل مباشر لاستقرار الاقتصاد على المستوى الشخصي (تحسين الدخل، ومستوى المعيشة)، والمستوى القومي (زيادة معدلات الدخل، واستقرار الاقتصاد الوطني متنوع المصادر). أقام مصرف شيكاغو للاحتياطي الفيدرالي مؤتمراً في تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 طرح فيه العلاقة الوثيقة بين التعليم العالي والنمو الاقتصادي، وقدم فيه توصيات تهدف لتطوير وتحديث سياسات التعليم العالي الأمريكية والعالمية لزيادة معدلات النمو الاقتصادي العالمي.