مَن ضد السعودة يا معالي الوزير؟

[email protected]

في اللقاء الوطني السابع للحوار الفكري قال وزير العمل الدكتور غازي القصيبي إن الوزارة لو استمرت في تخفيض الاستقدام لمدة ستة أشهر لما بقي في المملكة أي عاطل أو عاطلة. ولتوضيح أسباب إيقاف المشروع الطموح قال - كما طالعتنا بذلك الصحف - إنه عندما ضيقت الوزارة الخناق على مدمني الاستقدام أقاموا الدنيا ولم يقعدوها، فما كان من الوزارة إلا أن عادت إلى سابق عهدها. لا أعرف من هم مدمنو الاستقدام هؤلاء، لكني أعتقد أن المجتمع السعودي برمته مدمن للاستقدام والسبب في ذلك سيطرة فكر متناقض، وهذا الأمر لا يحتاج إلى دراسة ودليل علمي. يكفيك أن تذهب إلى الأسواق المجاورة لمنزلك لتكتشف حجم التناقضات في المجتمع التي تسلل منها فكر الاستقدام وتغلل في جسد أمتنا، فبينما تسمع النداءات هنا وهناك بألا تعمل المرأة في المحال التجارية ويضعون أمام متخذ القرار العقبات تلو العقبات مرة بعادات المجتمع وتقاليده ومرة أخرى باسم حمايتها، ثم باسم دعم الاقتصاد الوطني وحتى لا تعطل مصالح الأمة يصرخون بفتح الاستقدام للعمالة الأجنبية حتى إذا ضاقت الأرض عمالا بما رحبت وملئت محالنا عمالا أجانب غير مؤهلين تراهم ولم تعد أمام أعينهم عوائق ولم تظهر لهم مشكلات في أن تضع المرأة السعودية بضاعتها على شكل بسطة صغيرة أمام محل كبير للمستلزمات النسائية يعمل فيه رجال تم استقدامهم لذلك. باسم العادات وحماية المجتمع لا يجوز أن تعمل المرأة داخل المحل، وباسم الاستقدام وتشجيعا لهم تعزيزا لأرباحهم فإن عليها أن تعمل في الشمس الحارقة خارجه. تناقض تغلل منه الاستقدام حتى أدمن المجتمع عليه فلم يعد يميز بين الأمور.
إن التناقض المحفز للاستقدام لم يصب المجتمع فقط، بل هو متغلغل في الجهات الحكومية المسؤولة عن الحياة الاقتصادية لدينا، ولنبحث مثلا في سيرة شابين أحدهما سعودي والآخر أجنبي، من أي بلد شئت، وكلاهما يريد فتح محل تجاري سمه بما تريد، سيجد المواطن السعودي أمامه آلاف القضايا الشائكة ليجد لها حلا، فهو يحتاج إلى تمويل لن يجده ويحتاج إلى تصريح من "البلدية" وسجل من "التجارة" و"الصحة" و"البيئة" و"الزكاة والدخل"، ومشهد من 20 تاجرا أنه تاجر أو أنه عاطل يريد أن يصبح تاجرا، وإذا انتهت كل تلك الإجراءات فإن عليه أن يبحث عن محل مناسب لعمله البسيط بإيجار مناسب ومعقول وسيبحث عن ذلك في كل مكان، سيبحث فوق الأرض وتحت الأرض وسيسأل فيروز الشطان وسيعرف بعد رحيل العمر بأنه كان يطارد خيط دخان. جميع المحال ذات الواجهة الواحدة في المواقع المعقولة مستأجرة وجميعها يعمل فيها أجانب ولا يكاد يجد محلا شاغرا حتى تبدأ المزايدة عليه منهم وكأنه الكنز الضائع، وإذا غامر وفاز بمحل فعليه أن يدفع فورا لكي لا يبقى له ما يجهز به محله، لذلك ما إن يبدأ حتى يعلن المحل للتقبيل أو يخضع لابتزاز العمالة الأجنبية المستقدمة. في المقابل فإن كل ما على الشاب الأجنبي بعد مغادرته أرض المطار أن يبحث عن رجل غني أو صاحب عمارة فيها محل جاهز يستأجره "لا بلدية ولا تجارة ولا زكاة ودخل". انظر العوائق أمام شبابنا وانظر التسهيلات أمام الأجنبي وسمه تستر أو لا تسمه.
إنها التناقضات التي أربكت المجتمع وهي من صنع يديه. أن يعاني المجتمع من نقص حاد في الدقيق، فتلك أزمة تُسأل عنها الوزارات والوزراء، وأن نذهب ونشتري الدقيق بأضعاف مضاعفة في سعره من متخلف أجنبي لا نعرف كيف حصل على دقيقنا المدعوم من قبل حكومتنا، فتلك تجارة والتجارة شطارة. نشترى الدقيق ممن سرقه منا بأضعاف سعره ولا نبلغ عنه أو نساعد الوزارات المعنية لإيقافه، فذلك لعمري هو الجنون وليس التناقض أو هو إدمان الاستقدام وما ينتجه الأجنبي لنا.
إن وراء الاستقدام أزمة مجتمع يا معالي الوزير ومكاتب وشركات استقدام وسوق رائجة جدا نحتاج إلى تجفيف منابعها أولا - وأنت لها. إن مكاتب الاستقدام في المملكة تتحصل على مبالغ ضخمة جدا من جراء هذه التناقضات الاجتماعية، لذلك عندما طرحت فكرة الشركات الخدمية عارضوها وسيعارضون كل عمل تقدمي وتطوير حقيقي طالما أنه يهدد أرباحهم فلا تستمع إليهم. إن تجفيف منابع الاستقدام يبدأ بالحد من أرباح هذه السوق، وذلك بأن يتم تحديد أسعار الاستقدام وتخفيضها ومتابعة ذلك بشكل صارم مع إبقاء تكلفة الاستقدام كما هي من خلال رفع رسوم الاستقدام التي تتحصل عليها الدولة بالفرق بين سعر الاستقدام الحالي وسعره بعد التخفيض. هنا نرحل الأرباح التي تتحصل عليها شركات الاستقدام إلى الدولة بدلا من الأفراد وبها نعزز عملية تثقيف المجتمع.
إن معضلة الاستقدام لن تحل بين يوم وليلة، ولن تحل بقوانين فقط مهما كانت حجتها وقوتها، بل من خلال منهج اقتصادي تشريعي اجتماعي متكامل. نعم ليس على وزارة العمل أن تتحمل هذا الهم وحيدة، بل يجب أن يشاركها في ذلك عدد كبير من الوزارات والمصالح وحتى البنوك، لكن يجب أن تبقى وزارة العمل القائد الميداني في هذه المهمة الوطنية الكبرى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي