لبنان .. الغالب والمغلوب
لبنان حالة فريدة في عالم عربي لا يتحمل فيه تعايش توافقي بين أطرافه المتنافرة وفق معادلة كالمعادلة اللبنانية الشهيرة لا غالب ولا مغلوب، فالسائد في علمنا العربي غير ذلك تماما، أي أن التركيبة السياسية العربية قائمة على غالب وبقوة ومغلوب بانكسار، إلا في لبنان الذي توازن تركيبته السياسية صيغة لا غالب ولا مغلوب، والتي تؤمن له استقرارا سياسيا حتى ولو كان هشا على الدوام، ومثلما يُقال إن سر قوة لبنان هو في ضعفه يمكن القول إن صيغة لا غالب ولا مغلوب حتى وهي هشة كانت ضمانة استقرار لبنان وضابطة لتفاعلاته السياسية، بل وحتى لنزاعاته الداخلية، المرة الوحيدة التي تخلى فيها اللبنانيون عن هذه الصيغة وظن البعض أنه قادر على تجاوزها بالقليل من الخسائر، أدى ذلك إلى أن يدفع لبنان واللبنانيون جميعا ثمنا فادحا في حرب أهلية استمرت ثماني سنوات يعض عليها الجميع أصابع الندم حتى اليوم.
ما حدث في لبنان خلال الأيام الماضية ليس ظرفا طارئا معزولا عن إطار لبناني عام تصاعد على مدى ما يقرب من عامين، وبالتحديد منذ انتهاء حرب تموز (يوليو)، وذلك التصاعد جاء نتيجة لانقسام اللبنانيين بين موالاة ومعارضة وقفا على طرفي نقيض بدءا من الانسحاب السوري من لبنان حين رأته الموالاة تحريرا للبنان واستعادة لاستقلاله فيما عرف بثورة "الأرز"، واعتبره فريق المعارضة نكرانا للجميل وخدمة لأهداف وسياسات خارجية، وجاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري ليزيد من حدة الانقسام على وقع اتهام قيادات بارزة في الموالاة لسورية بأنها تقف وراءه، وبالرغم من هذا الشحن بينهما إلا أن الجميع تمسك بصيغة لا غالب ولا مغلوب حتى مع قناعة البعض بأن الظروف أفرزت معطيات جديدة تمكن من وجود غالب ومغلوب.
مساء الخميس الماضي غيرت معادلة التوازن في التركيبة السياسية اللبنانية وحدث المحذور حين أسقطت صيغة لا غالب ولا مغلوب، ودخل لبنان فعلا مرحلة جديدة قد لا تقود إلى حرب أهلية كسابقتها، لاختلال واضح في موازين القوة، ولكن يمكن أن تؤدي إلى ترسيخ حالة غالب ومغلوب سياسيا على الأقل، وهي حالة لا يمكن أن تتناسق مع تركيبة لبنانية طائفية ضمانة تآلفها هي المشاركة بصيغة لا غالب ولا مغلوب، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا هو مَن المسؤول عن إسقاط صيغة التعايش اللبناني التقليدية وإدخال لبنان في حالة لا تتوافق أبدا مع وضعه الطائفي المتعدد..؟
أظن أن تحديد المسؤولية هنا عما حدث لا بد أن يكون أبعد وأوسع من لبنان وأكبر من خلافات أطرافه السياسية المختلفة، وهذا واقع وإن أنكره كل اللبنانيين، فلا يمكن إبعاد تأثير العامل الخارجي الإقليمي والدولي في كلا طرفي الأزمة في لبنان، وإذا اتفقنا، وهذه حقيقة, على أن المسؤولية الأساسية تقع على طرفي الأزمة, الموالاة والمعارضة معا لسببين، أولهما هو عجزهما عن معالجة خلافهما السياسي وفق مصلحة وطنية صرفة، والآخر هو سماحهما برهن موقفيهما لتحالفات إقليمية وخارجية أدت إلى جعل الأزمة اللبنانية جزءا من صراع إقليمي له بعد دولي حول لبنان إلى إحدى أهم ساحاته، فلن يختلف على أن جزءا من هذه المسؤولية يقع على عاتق الوضع الإقليمي والتعاطي الدولي معه، والذي بات واضحا بأن له دورا في تعطيل حل الأزمة اللبنانية ودفع طرفيها للتشدد في المواقف وتضييق مساحة الاتفاق والوفاق فيما بينهما، وهذا ما أدى إلى خروج معادلة التعايش اللبناني عن النص، وهو خروج من التبسيط الشديد إرجاعه لما هو ظاهر من الأزمة اللبنانية، فالأسباب الكامنة تحت السطح هي المؤثرة فعليا، وهي التي فجرت الوضع كما شاهدناه، فالمؤثر الإقليمي واللاعب الخارجي بات هو ما يحرك اتجاهاتها ويتحكم في إيقاعاتها أكثر من قدرة بعض أطرافها، ولا شك أن ما ساهم في تفاقم الأزمة لتصل إلى هذا الوضع المؤسف هو تحول السجال السياسي إلى استفزاز سياسي بين طرفيها، ما جعلها تتراكم وتكبر حتى انفجرت في وجه اللبنانيين جميعا.
ما العمل الآن..؟ ليس أمام اللبنانيين موالاة ومعارضة غير الحوار الوطني بعيدا عن التأثير الإقليمي والخارجي، ومن يظن منهما أنه يملك معطيات تغيير معادلة العيش المشترك بصيغة غالب ومغلوب يخطئ كثيرا، فتركيبة لبنان الطائفية والسياسية لا تتحمل قوة داخلية مهيمنة حتى ولو تزينت بأكاليل غار المقاومة المستحقة، ولا سعي البعض لتقزيم قوة المعارضة تحت حجة أغلبية تؤمن الحكم ولا تعطي حق احتكار القرار الوطني.