تنظيم الإفتاء.. شروطه وآدابه

أقامت الدولة أجهزة متخصصة في الإفتاء الشرعي، وهي هيئة كبار العلماء والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء. ويمكن للدولة والأفراد أن يستفتونها في جميع المسائل التي تتعلق بأمور الدين والدنيا. وقد صدرت عنها العديد من الفتاوى التي أبانت للسائلين حكم الشرع في المسائل المطروحة عليها.
وتزايدت في السنوات الأخيرة أعداد المفتين في بعض الدول العربية، ومنها السعودية، وساعدت المحطات الفضائية ووسائل الاتصالات الحديثة على تكاثرهم وظهورهم وتضاربت الفتاوى، أدى ذلك إلى وقوع بعض عامة الناس في تخليط، والأشد نكرا أن بعض الفتاوى كانت أقرب إلى الأفكوهة، والأمثلة على ذلك عديدة وأكتفي هنا بسرد مثالين، الأول (الفتوى) التي أصدرها الدكتور عزت عطية الأستاذ في جامعة الأزهر بجواز قيام المرأة الموظفة أو العاملة بإرضاع زميلها حتى يمكنهما الخلوة في مقر العمل ثم تراجع عن رأيه واعترف بخطئه على إثر عاصفة من النقد الشديد هبت ضده. والمثل الثاني، الرأي الذي أطلقه الكاتب المصري (جمال البنا) عبر إحدى الفضائيات وتناقلته بعض وسائل الإعلام، ومفاده (إباحة القبلات بين الشباب والفتيات، المساكين المحرومين من الجنس الحلال، وعليهم أن يتصدقوا بعد ذلك تكفيرا عن هذا الذنب البسيط).
ومن المفارقات في هذا الصدد أن أحد القضاة في الهند حكم بحبس نجم هوليوود الأمريكي ريتشارد جير، لأنه قبّل الممثلة الهندية الشهيرة شيلبا شيتي في حفل خيري في مدينة نيودلهي، وأدى ذلك إلى قيام بعض الهنود بمظاهرات في الشوارع تهتف بأشد العبارات ضد نجمتهم المحبوبة والممثل الأمريكي لممارستهما (الممنوع) في مكان عام. أليس من عجائب هذا الزمان أن يحلل كاتب مسلم القبلة بين العشاق ويعاقب قاض هندي غير مسلم على قبلة عابرة في حفل عام؟!
وقبل أيام قليلة جاء في الأخبار الصحافية أن الجهات المعنية في السعودية وضعت تنظيما للحد من فوضى فتاوي الجوّال وما قد يصاحب بعضها من تجاوزات خارجة عن القانون، وأن التنظيم الجديد يلزم هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات بإعاقة أية خدمات فتوى لم تحصل على إذن مسبق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، وأن التنظيم الجديد لا يستهدف منع الخدمة بقدر ما يسعى إلى تنظيمها للتأكد من كفاءة القائمين عليها وسلامة توجهاتهم.
ولا شك أن الإفتاء أمانة ومسؤولية ولا يجوز أن يتصدى له إلا العلماء المجتهدون، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء. ولقد أوضح مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في قراره رقم 153 (2/17) شروط الإفتاء وآدابه، ولأهمية هذا القرار أسرد نصه كاملا فيما يلي:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في دورته السابعة عشرة في عمّان (المملكة الأردنية الهاشمية) من 28 جمادى الأولى إلى 2 جمادى الآخرة 1427هـ، الموافق 24 – 28 حزيران (يونيو) 2006.
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع الإفتاء: شروطه وآدابه، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
أولاً: تعريف الإفتاء والمفتي وأهمية الإفتاء:
الإفتاء بيان الحكم الشرعي عند السؤال عنه، وقد يكون بغير سؤال ببيان حكم النازلة لتصحيح أوضاع الناس وتصرفاتهم.
والمفتي هو العالم بالأحكام الشرعية وبالقضايا والحوادث، والذي رزق من العلم والقدرة ما يستطيع به استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها وتنزيلها على الوقائع والقضايا الحادثة.
والفتوى أمر عظيم، لأنها بيان لشرع رب العالمين، والمفتي يوقع عن الله تعالى في حكمه، ويقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان أحكام الشريعة.
ثانياً: شروط المفتي:
لا يجوز أن يلي أمر الإفتاء إلا من تتحقق فيه الشروط المقررة في مواطنها، وأهمها:
أ – العلم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بهما من علوم.
ب – العلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية.
جـ - المعرفة التامة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده ومقاصد الشريعة، والعلوم المساعدة، مثل: النحو والصرف والبلاغة واللغة والمنطق وغيرها.
د – المعرفة بأحوال الناس وأعرافهم، وأوضاع العصر ومستجداته، ومراعاة تغيرها فيما بني على العرف المعتبر الذي لا يصادم النص.
هـ - القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص.
و – الرجوع إلى أهل الخبرة في التخصصات المختلفة لتصور المسألة المسؤول عنها، كالمسائل الطبية والاقتصادية ونحوها.
ثالثاً: الفتوى الجماعية:
بما أن كثيرا من القضايا المعاصرة معقدة ومركبة، فإن الوصول إلى معرفتها وإدراك حكمها يقتضي أن تكون الفتوى جماعية، ولا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى هيئات الفتوى ومجالسها والمجامع الفقهية.
رابعاً: الالتزام والإلزام بالفتوى:
الأصل في الفتوى أنها غير ملزمة قضاء، إلا أنها ملزمة ديانة فلا يسع المسلم مخالفتها إذا قامت الأدلة الواضحة على صحتها، ويجب على المؤسسات المالية الإسلامية التقيد بفتاوى هيئاتها الشرعية في إطار قرارات المجامع الفقهية.
خامساً: من لا تؤخذ عنه الفتوى:
1 – لا تؤخذ الفتوى من غير المتخصصين المستوفين للشروط المذكورة آنفا.
2 – الفتوى التي تنشر في وسائل الإعلام المختلفة كثيرا ما لا تصلح لغير السائل عنها، إلا إذا كان حال المطلع عليها كحال المستفتي، وظرفه كظرفه.
3 – لا عبرة بالفتاوى الشاذة المخالفة للنصوص القطعية، وما وقع الإجماع عليه من الفتاوى.
سادساً: من آداب الإفتاء:
على المفتي أن يكون مخلصا لله تعالى في فتواه، ذا وقار، وسكينة، عارفا بما حوله من أوضاع، متعففا ورعا في نفسه، ملتزما بما يفتي به من فعل وترك، بعيدا عن مواطن الريب، متأنيا في جوابه عند المتشابهات والمسائل المشكلة، مشاورا غيره من أهل العلم، مداوما على القراءة والاطلاع، أمينا على أسرار الناس، داعيا الله سبحانه أن يوفقه في فتواه، متوقفا فيما لا يعلم، أو فيما يحتاج للمراجعة والتثبت.
التوصيات:
1 – يوصي المجمع بدوام التواصل والتنسيق بين هيئات الفتوى في العالم الإسلامي للاطلاع على مستجدات المسائل، وحادثات النوازل.
2 – أن يكون الإفتاء علما قائما بنفسه، يدرس في الكليات والمعاهد الشرعية، ومعاهد إعداد القضاة والأئمة والخطباء.
3 – أن تقام ندوات بين الحين والآخر للتعريف بأهمية الفتوى وحاجة الناس إليها، لمعالجة مستجداتها.
4 – يوصي المجمع بالاستفادة من قرار المجمع رقم 104 (7/11) الخاص بسبل الاستفادة من الفتاوى، وبخاصة ما اشتمل عليه من التوصيات التالية:
أ – الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتبرة شرعا، وإنما تستند إلى مصلحة مرهومة ملغاة شرعا نابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف المخالفة لمبادئ وأحكام الشريعة ومقاصدها.
ب – دعوة القائمين بالإفتاء من علماء وهيئات ولجان إلى أخذ قرارات وتوصيات المجامع الفقهية بعين الاعتبار، سعيا إلى ضبط الفتاوى وتنسيقها وتوحيدها في العالم الإسلامي.
والله أعلم

محام ومستشار قانوني
جدة
فاكس 6557888

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي