مجتمعنا متحضر ولكن بنماذج متخلفة

[email protected]

"هل نحن مجتمع متحضر ..؟" كان ذلك سؤالا مستفزا لأخينا الكاتب المهموم بالشأن العام الدكتور عبد الله محمد الفوزان في مقالة أخيرة له في جريدة "عكاظ"، والذي لامس فيه بقلمه الساخن قضية بالغة الأهمية تهم الجميع كاشفا تلك القشرة التي تغطي تخلفنا بقناع تحضر يضفي على مجتمعنا وهما وتوهما صورة زاهية، وقبل الخوض فيما ذهب إليه الدكتور الفوزان في ذلك المقال، لا بد أولا من أن نحدد مفاهيم ما نقصده بالتحضر والتخلف، فيمكن لنا مثلا القول إن التحضر ليس أن تقود سيارة فارهة حديثة بل كيف تتصرف بقيادتها وكيفية سلوكك المروري، فالتحضر الحقيقي هو أن يلتزم الفرد بقانون الجماعة ويحترمه وإن تعارض مع مصلحته الفردية الضيقة، أما التخلف فهو ببساطة متناهية حينما يغلب الفرد الحلول الفردية على حساب المصلحة الجمعية وبما يسبب ضررا وإزعاجا للآخرين.
بناء على هذا التصور يمكن لنا تصنيف مجتمعنا إن كان يغلب عليه التحضر أم التخلف، وقياس ذلك سهل حيث لا يحتاج إلا إلى أن نرصد السلوك العام ونرى هل هذا السلوك يؤهل لأن يصنف مجتمعنا ضمن التحضر أو يوصم بالتخلف..؟ الحقيقة أن الدكتور الفوزان كفانا مؤونة ذلك، ففي مقالته تلك رصد لنا شواهد عديدة تعكس صورة سلبية تقرب مجتمعنا من التخلف وتبعده عن التحضر بكل أسف، بدءا من أساليب القيادة في الشوارع مرورا بسلوكيات لا تتوافق مع روحانية بيوت الله وانتهاء بتعاملنا مع المرافق العامة وصور العبث بها كما حددها وأشار إليها، وهذه جميعا تمثل السلوك العام الذي يحدد تصنيف مجتمعنا هل هو متخلف أو متحضر.
لا أريد أن أعيد ذكر صنوف وأشكال التصرفات والسلوكيات المتخلفة التي ساقها الدكتور الفوزان في مقالته تلك ودرج عليها البعض، وحين أقول البعض لأن الأغلبية ولله الحمد ترفضها وتستهجنها، ما يعني أنها تمثل القلة وليس الكثرة، فمجتمعنا بما هو متوافر له يملك أدوات بأن يكون مجتمعا متحضرا، إلا أن ما يشوهه ويجعله أقرب للتخلف منه للتحضر نماذج متخلفة تسوسها الهمجية باعتقاد أن السلوك المتحضر دروشة وضعف، وخرق النظام والتعدي على القانون شطارة وفهلوة وبراعة، فوجود مثل هذه النماذج التي تسيء لصورتنا المتحضرة وتلوث مظهرنا العام بتصرفاتها وسلوكياتها العابثة والمتهورة والمتخلفة هي التي تعطي التصور بأننا مجتمع متخلف، ولذا أقول إن مجتمعنا هو مجتمع متحضر بعمومه وإن وجدت فيه نماذج نزقة ومستهترة تعكس جانب التخلف ما زالت تحتاج إلى ترويض حتى تتناسق مع أجواء ومتطلبات التحضر والحضارة، وخذوا على ذلك مثلا شائعا في شوارعنا، والشارع دائما هو أبرز مقاييس التحضر والتخلف، فعند الإشارات يقف الغالبية في المسارات النظامية إلا قلة شاذة تأتي متسللة من خارج تلك المسارات وتسطوا على حق الغير بالمرور حين تضيء الإشارة خضراء، وتلك القلة هي ما نقصده بالنماذج المتخلفة العابثة بمظهرنا المتحضر بكل أسف.
طبعا لا نريد أن تأخذنا الحمية المفرطة ونقول إن مجتمعنا كامل التحضر، فهذا مبالغة في القول، فالحقيقة هي أن هناك تخلفا ما زال يبرز هنا وهناك وما زالت توجد فئات فهمت التحضر على أنه مظهر وليس سلوكا أبرزها صنف من الشباب الذين نعاني من تصرفاتهم وسلوكياتهم المتخلفة بل والهمجية كما نراها في طرق قيادتهم البهلوانية لسياراتهم وكثير منها فارهة، أو بما يرتكبونه من تعديات أخلاقية في الأسواق والمتنزهات، مع أن المفترض بهم أن يكونوا الجيل الذي ولد ووجد في بيئة متحضرة بدءا من لحظة تنفسه الأولى في غرف ولادة المستشفيات المعقمة وليس على يد الدايات وحتى تخرجه في الجامعات وترعرعه في أجواء ثقافية متعددة أبسطها يعلمه السلوك المتحضر".
السؤال الأهم في ذلك هو لماذا توجد في مجتمعنا مثل هذه النماذج "المارقة" على التحضر ومتطلباته السلوكية فيما نراه من تصرفاتها غير المبالية والمستهترة في الشوارع والأماكن العامة ومجمل التعامل..؟
أظن أن التحضر إضافة إلى أنه ثقافة تخضع الفرد لرقابة وردع ذاتي وإحساس بروح جمعية، فهو نتاج وجود قوانين وأنظمة تضبط حركة المجتمع وفق نسق حضاري من خلال فاعلية في المحاسبة والعقاب بدون مجاملة ولا تغاض، فجزء أكبر من التزام الشعوب المتحضرة والمتطورة هو تبعات الخروج على النظام العام المكلفة، فأي قانون إن لم تكن له أنياب ويد رادعة يكون مجرد حبر على ورق، وهذه النماذج المتخلفة في مجتمعنا في تصرفاتها وسلوكياتها لا يقومها ويروض تخلفها إلا وجود عقاب ومحاسبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي