هل النخبوية تهمة؟
في إحدى حملاته الانتخابية في ولاية بنسلفينيا تحدث المرشح الديموقراطي للرئاسة الأمريكية باراك أوباما عن العاطلين عن العمل ووصفهم بأنهم مصابون بالمرارة مما أدى إلى اتجاههم للتشدد الديني أو اللجوء للأسلحة. انتهزت هيلاري كلنتون المرشحة المنافسة للحزب الديموقراطي الحدث واتهمت أوباما بأنه نخبوي، وأنه لا يتفهم الناخبين، وفقد اتصاله مع المواطن الأمريكي البسيط، وكذلك استغل المرشح الجمهوري جون ماكين الحادثة للتشنيع بانفصال أوباما (والديموقراطيين عموماً) عن هموم المواطنين الأمريكيين. وانشغل أوباما ومستشاروه في الأيام التالية يدافعون عن أوباما ويدحضون عنه تهمة النخبوية.
بالطبع في الولايات المتحدة (وغيرها) تكون النخبوية تهمة حين تفصل المرء عن هموم المجتمع، أو حين تجعله يعيش في عالم غير واقعي، متجاهلاً المشكلات المحيطة به، ليعيش في حالة طوباوية خارج خريطة الواقع.
أتذكر مشاهدة برنامج أمريكي كان يطرح استفتاء عما إذا كنت تعد نفسك إنساناً متوسطاً (أي لست نخبوياً أو أعلى من المتوسط في أي مجال أو مهارة)، وكان غالبية الذين أجابوا يؤكدون أنهم يشعرون بأنهم متوسطون. وأزعم أن هذا الاستفتاء لو كان عندنا لادعى الغالبية أنهم أكثر من متوسط سواء في الذكاء، أو المهارات، أو القدرات، أو غير ذلك.
ولكن السؤال هنا: هل حقاً النخبوية تهمة؟ ظهرت حركات ثقافية نخبوية عديدة في القرن العشرين، وكلها لم تكن تخفي نخبويتها، أو تعتذر عنها. فالشعر الحداثي في بدايات القرن العشرين كان عسير الفهم على المثقفين، ناهيك عن متوسطي الثقافة، ولكي تفهم قصيدة للشاعر تي. إس. إليوت مثلاً، ينبغي أن تكون واسع الاطلاع والقراءة في الأساطير الإغريقية، والتاريخ، وتاريخ الأدب، والفلسفة، والفن، واللغات الأوروبية. وحين انتقلت الحركة للعالم العربي، حافظ شعراؤها على هذه اللمسة النخبوية، فجاء شعر السياب مثلاً عسيراً على فهم كبار المثقفين والنقاد. وأعيد تقديم الشعر على أنه بحث في الفكر والفلسفة، وليس مجرد نقل شعور، وبهذا فرق النخبويون بين الثقافة العليا والدنيا، وأنهم، وإن كانوا منفصلين تماماً عن مشكلات العالم الواقعية، عاشوا في مشكلات العالم الحديث الفكرية، وأزمة الهوية المعاصرة التي لا تحرك الجماهير بكل حال، وبقي شعرهم مقروءاً فقط بين النخبويين.
لعل غالبية مجتمعنا يرغب في أن يكون نخبوياً على طريقة أخرى: طريقة التميز. فالبحث المستميت عن الرقم المميز للجوال، أو لوحة السيارة، أو محاولة الحصول على معاملة متميزة في المؤسسات العامة والخاصة يدفع كثيرا منا لأن يبدوا أعلى من المتوسط، بل إن المتوسط هنا يصبح تهمة يجب دحضها على نحو: أنا لست مثل غيري، وألا تعرف من أنا، وتقديم بطاقات التعريف المنمقة بالوظيفة والألقاب العلمية والمهنية.
ولكن على المستوى الثقافي فإن النخبوية تعني الانعزال، وخلق بيئة خاصة لها قوانينها ومشكلاتها التي لا تعني من قريب ولا بعيد الإنسان المتوسط. ويبدو لي أن هذا في حد ذاته ليس عيباً، وإلا لما ظهرت حركات فنية أو مدارس فلسفية أو فكرية، فالفكر بطبيعيته يتجه للتعمق في الدراسة والبحث، والثقافة العامة (الشعبية) تتجه بطبيعتها للتسطيح والقولبة والتعميم. وهذا الفرق الرئيسي بين الكتاب والتلفزيون، بين الثقافة والإعلام، بين ثقافة النخبة وثقافة العامة. وكان الله في عون وزارة الثقافة والإعلام التي كتب عليها أن تحاول إرضاء الطرفين، وهما ضدان.