رحلة البحث عن الكنز البشري
"إن ملايين الكسالى ليسوا سوى صف من الأصفار" فكم من دولةٍ صغيرة أصبحت من دول العالم الأول كـ "سنغافورة" بينما هنالك قارة تعج بمئات ملايين الناس وتعيش على المعونات بالرغم من أنها تمتلك الكثير من الثروات! فالكفاءات البشرية السعودية ندرة، حقيقة ينطق بها معظم رجال الأعمال أثناء رحلة بحثهم عن الكفاءات البشرية من أجل تسيير أو تطوير أعمالهم، فالعنصر البشري المتمكن والمنضبط لا يمكن الاستغناء عنه مهما تقدمت التكنولوجيا وحلت محل البشر خصوصا في الأعمال الخدمية التي تعتمد بشكل كبير على الموارد البشرية، أما الصناعات فلا شك أن الآلة الحديثة استطاعت أن تحل محل الكثير من الموارد البشرية وتحقق الجودة العالية والانضباط الأمثل، حتى أصبح الكثير من الصناعات غير مولّدة للفرص الوظيفية وإن عظمت استثماراتها. ما سر هذه المعادلة المخيفة رغم المليارات التي تصرف على قطاع التعليم والتدريب، ورغم الجهود الكبيرة التي تبذلها حكومتنا الرشيدة لتأهيل وتوظيف الموارد البشرية السعودية، ولماذا ؟
ونحن اليوم نتحدث كثيراً عن التنمية، وتنويع مصادر الدخل، واستثمار الفوائض المالية، وتطوير الموارد البشرية، والسعودة، والتنافسية، والشفافية وغيرها والحقيقة أننا ندور في حلقةٍ مفرغة، فكم من شركةٍ سعودية تطمح إلى أن تصل نسبة السعودة لديها إلى 100 في المائة، ولكن أين هم السعوديون المؤهلون الذين يقودون هذه الشركة إلى النجاح والتفوق؟ ومنها ما تقوم بتأهيل الموارد البشرية عبر التدريب والتطوير ولكن دون المأمول بكثير حتى أصبح واقع تلك الشركات كـ "حراثة البحر" فما السر في ذلك ؟
في الحقيقة بعد تأملي الطويل في حال القطاع الحكومي ومحاولات تطويره وحال القطاع الخاص الذي أصيب بالإحباط وهو يبحث عن الموظفين الأكفاء دون نتيجة إيجابية، بدأت تنتابني شكوك في أن الجينات الوراثية لدينا هي السبب! ولكن بعد أن قمت بالغوص والتنقيب والتأمل في تاريخنا العربي والإسلامي وجدت أن أمةً أخرجت عمالقةً من القادة العظام والعلماء والمفكرين الذين أناروا الحضارة الإنسانية بغزير إنتاجهم العلمي والمعرفي، والذين صنعوا حضارة الأندلس التي كانت حلقة الوصل لنقل الحضارة الإسلامية لبلاد الغرب الذين تعلموا من هذه الحضارة وطوروا ما تعلموه وحققوا نتائج عظيمة في شتى المجالات، بل إنني وصلت إلى يقين أن "الإنسان العربي المسلم هو أجدر الناس بالإبداع والتميز وصناعة الحضارة " ولذلك فإني لا أشك لحظة أن ضعف مواردنا البشرية هو "نتاج حلقات ضعيفة في سلسة أضعف" تبدأ من "المنزل، المدرسة، الإعلام، وثقافة المجتمع"، فمن أسر تقليدية تبذل جهوداً كبيرة لتنميط الأبناء وقتل روح التفكير والابتكار والتطوير لديهم إلى مدارس تحفِّظ وتلقِّن وتمنع التفكير إلى مجتمع يشجع التقليد ويحارب ويُقصي المجدد والمبتكر والخارج عن المألوف، ثم إعلام طوَّر منظومات الغناء والتفاهة والشعر السطحي والمتصحر، فهل من حلول؟ الإجابة نعم، إذا عملنا على "تطوير التعليم الذي أعتبره الداء والدواء " ليكون قادراً على إنتاج جيل قادر على تربية وتعليم جيل مبدع ينتج عنه مجتمع وإعلام يمتلك الوعي والجدية والتميز، وفي رأيي أننا مهما قمنا بجهود كبيرة في تطوير الموارد البشرية من خلال ما تقوم به وزارة العمل أو القطاع الخاص فلن تكون سوى كبسولات لا تشفي سوى 5 في المائة من المرض الذي لن يتم علاجه إلا بتطوير التعليم من خلال نظام تعليمي متكامل مبني على مواد للإبداع والابتكار وإدارة الوقت ومهارات الاتصال وفنون الحوار. ولا شك أن "برنامج الملك عبد الله لتطوير مرفق التعليم" يمكن أن يكون قاعدة متينة لتطوير تعليم قادر على إنتاج جيل مبدع ومتمكن ويمتلك سمات شخصية سليمة، خصوصاً إذا تم تبني هذا البرنامج من قبل "جهاز جديد" بعيد كل البعد عن هموم وزارة التربية والتعليم التنفيذية اليومية، فلو قمنا بإنشاء "هيئة لتطوير التعليم" تُدار بعقلية منفتحة يقودها رجل متمكن قادم من القطاع الخاص لتقوم بتطوير التعليم الحكومي والأهلي مدعومة بفرق عمل مختلفة من متخصصين في التربية عارفين تمام المعرفة حاجات وواقع التعليم وسوق العمل في بلادنا، وكذلك متخصصين في التنمية الذاتية وفي التعليم الفني والتقني ومتخصصين في الشريعة وعلماء نفس، على أن يكونوا منفتحين على التجارب العالمية الناجحة في كل من أوروبا وأمريكا وآسيا ليقوموا بتحليل إيجابيات وسلبيات كل نظام ومدى توافقه مع "ديننا فقط وليس مع عاداتنا"، ومن ثم وضع الأنظمة التعليمية والمناهج بأفضل ما توصلت إليه الدول المتقدمة في مجال التعليم وذلك "بالصفوة المتوافقة مع ديننا وحاجاتنا وواقعنا" ولا شك أنه من الواجب الاستفادة من التاريخ الإسلامي في مجال التعليم في كل العصور، ويجب أن يكون العمل من خلال خطة استراتيجية مدروسة ومرنة وعملية وواقعية وبعيدة كل البعد عن أية يد بيروقراطية وذلك لتطوير التعليم العام والخاص، مع الأخذ في الاعتبار أن تطوير التعليم الخاص يتم من خلال أنظمة وتشريعات تحفيزية تفتح المجال بشكل واسع للتعليم الأهلي بجميع مراحله الابتدائية والثانوية والدراسات العليا، مع تحديد معايير صارمة للجودة مبنية على الرقابة والتشجيع عبر مؤسسات متخصصة وجوائز محفزة للإبداع والتميز لضمان تميز المناهج والأنظمة التعليمية الخاصة بشرط أن تقتصر على "الجودة" وليس على "البيرواقراطية" وعندئذ سيكون في بلادنا ملايين القياديين المبدعين في شتى المجالات ولننظر لكل شيء بشمولية وسعة أفق ولنزرع أرضنا ببذور العلم والإبداع والتفوق لنصل إلى ما نصبو إليه كـ "خير أمة أُخرجت للناس".