بين الخبير الفقير والاقتصادي الأعظم

[email protected]

وصلني عدد من الرسائل والاتصالات التي تشجب وتستنكر ما حاولت أن أقوله في مقالتي السابقة بعنوان "خبير اقتصادي ولكن فقير"، وبالطبع فهم يقولون إنهم خبراء اقتصاد، وإنهم أغنياء، وإنهم قادرون على القيادة، وإن تخصصهم هو الأهم بين جميع الفنون والتخصصات! مؤكدين خطأهم فيما ذهبت إليه.
ولكوني كاتباً منفتحاً على الرأي الآخر فإني أحترم تلك الآراء رغم اختلافي معها جملةً وتفصيلاً، والشواهد تدل على ذلك، بل إن الأمر في رأيي أشد سوءًا، حيث لا يوجد لدينا مفكرون في المجال الاقتصادي يستطيعون الاستفادة بالمستوى المطلوب من المخزون والموروث الثقافي والاقتصادي الإسلامي الذي حقق إنجازات كبيرة فيما مضى من القرون.
ولا أخفيكم أنني أغمضت عيني وغرقت في بحرٍ من التأمل الذي طاف بي إلى عمق الشيوعية والرأسمالية والليبرالية وبدأت أحوم حول تلك المدارس وما الذي تطبقه روسيا والصين كمثال للشيوعية، وما الذي تطبقه بريطانيا وأمريكا كمثال للرأسمالية،، وأين نحنُ من ذلك؟! وأين نحنُ من الاقتصاد في عصر الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي فاضت خزانة الدولة في عهده حتى إن الزكوات لم تجد فقيراً يستحقها في ذلك العهد!
وبدأت أستذكر حكاية ذلك الطالب المسلم الذي قام بطرح عدد من الحلول للتضخم وحالات الإفلاس أثناء محاضرة لواحد من أعظم خبراء الاقتصاد في العالم في إحدى الجامعات الأمريكية العريقة، الذي انبهر وتعجب كثيراً وقال للطالب المسلم: من أين لك هذا؟ فأجابه بكل بساطة "من ديني الإسلام وهي البديل عن الربا"، فتقعر وجه البروفيسور وبدأ يتمتم في كلمات مرادها بأن ما طرحته لا يصلح لهذا الزمان!
أنا لا أستغرب من أي خبير اقتصادي سعودي حين يقف محتاراً ومستسلماً أمام مشكلة التضخم، حيث إن كل ما كان يدرسه في مناهج الجامعات الأمريكية مبني على الرأسمالية والربا الذي يهشم أركانها، وكذلك لا ألوم زميله الذي تخرج في جامعاتنا أيضاً فهي تدرّس أبناءنا كل ما له علاقة بالربا! وبعضها بدأ أخيراً يضيف وريقات عن الاقتصاد الإسلامي، رغم أننا كمسلمين على يقين بأن الله شرَّع لنا في كتابه الكريم كل قواعد البيوع والمعاملات التي تصلح لكل زمانٍ ومكان، وعلى يقين بأن الشرع الحنيف ليس به أي نقص، ويستحيل أن يقف أمام تضخم أو إفلاس دون منهج علمي متكامل لا مجال به للشك أو للتسليم أمام مشكلات ليس لها حلول.
وإذا كنا بهذا اليقين فعلاً، فلماذا يوجد لدينا هذا التضخم المخيف ؟! ولماذا توجد لدينا بنوك ربوية؟!
ولماذا تصبح الأموال الكثيرة وبالاً على متوسطي الدخل ومحدودي الدخل الذين تحول كثير منهم إلى فقراء، وذلك بالرغم من أن الدين الإسلامي أوجد آليات مالية عديدة لاستثمار الأموال بطرق بعيدة كل البعد عن الربا لإنتاج السع والخدمات بالشكل الذي يزيد من المعروض على حساب المطلوب، وهو ما يؤدي بالتبعية إلى تهدئة الأسعار وتخفيضها ورفع القيمة الشرائية للوحدات النقدية؟ ولماذا لدينا خبراء اقتصاد مسلمون لا ينظِّرون إلا من خلال المدرسة الرأسمالية العاجزة عن حلول نهائية للتضخم؟
حسب علمي، فإن منتدى الرياض الاقتصادي وبتكليف من مجلس الغرف ومجموعة من الغرف التجارية، يجري حالياً دراسة لمعالجة مشكلة التضخم، والسؤال المهم: هل يوجد خبراء اقتصاديون يشاركون في تلك الدراسة قادرون على الغوص في الموروث الإسلامي لابتكار حلول ناجعة، خصوصاً وأننا شعب مسلم يعلم يقين العلم أن الحياة الدنيا ما هي إلا دار عبور للحياة الآخرة "وهي نقطة جديرة بالاهتمام وتميز الاقتصاد الإسلامي ولا يتمتع بها أي اقتصاد وضعي"، فالمسلم دائماً يرجو في معاملاته ما بيد الله بخلاف غير المسلم الذي يرجو ما بيد الطرف الآخر فقط!
أعتقد أنه حان الوقت للإخوة الاقتصاديين، خصوصاً الخبراء منهم والعاملين في الحقل الاقتصادي، أن يتفرغوا لتطوير منظومة الاقتصاد والمال الإسلامية "ولا أنكر الجهود العظيمة التي يبذلها عدد من المهتمين بالمصرفية الإسلامية في تطوير هذا المجال المهم ولكني أتكلم عن مرجعية شاملة ومعتمدة"، فهي منظومة كما يعلم المختصون تعمل على تمكين الطبقة الفقيرة والمتوسطة القادرة على العطاء والإنتاج من تطوير الأعمال الخاصة بهم، وكل ذلك يسهم بطريقة أو بأخرى بتوفير الفرص الوظيفية وزيادة السلع والخدمات المنتجة، بخلاف النظام الرأسمالي الذي يركز على تمويل الأغنياء أصحاب السجلات الائتمانية، ما يجعل الأغنياء يزدادون غنىً والفقراء يزدادون فقراً!
أخيراً إذا كان دستورنا القرآن والسنة، فلماذا لا يتم وضع جدول زمني لتطوير أنظمتنا الاقتصادية والمالية بالاستناد إلى الفكر الاقتصادي والمالي الإسلامي؟ ولا شك أن تعاوناً بنّاء بين جامعاتنا والمؤسسات المالية المنظِّمة للقطاع المالي (مؤسسة النقد "ساما"، وهيئة السوق المالية) والمنظمات الإسلامية المعتبرة كرابطة العالم الإسلامي والغرفة التجارية الإسلامية، وذلك برعاية مالية من البنوك السعودية وبنك التنمية الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي سيؤتي ثماره في هذا الاتجاه، خصوصاً إذا تم تدعيم هذا التعاون بلجنة مكونة من عدد من كبار العلماء المتخصصين في الاقتصاد الإسلامي، وفقهاء متخصصين في فقه المعاملات، وخبراء مصرفيين، وخبراء اقتصاد متخصصين من دول ومدارس مختلفة، وكلي ثقة بأن مثل هذا التجمع قادر على وضع مرجع شامل ومعتمد في الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية ليكون لدينا مرجع نعمل من خلاله على حل الكثير من مشكلاتنا دون الاستسلام لأي مشكلة، لأنه مبني على تشريع علمي "مُعجز" فهو من عند الله وليس من عند كارل ماركس أو آدم سميث!

*كاتب ورجل أعمال

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي