إعادة هيكلة موازنة الدولة لحل البطالة
رغم المحاولات المضنية لهيكلة موازنة الحكومة السعودية لاستبعاد تأثير الريع النفطي، والاعتماد على تنويع الاقتصاد المحلي، إلا أن تلك المحاولات والجهود تتلاشى أمام واقع يقول إن ريع النفط سيظل مصدراً رئيساً لموازنة الحكومة لسنوات طويلة وعديدة. ولن يفيد تنويع الاقتصاد كثيراً في إيجاد مصادر دخل رئيسة أخرى، ناهيك عن أن تبني الحكومة نظاماً ضريبياً متكاملاً بعيد المنال الآن وفي المستقبل المنظور. لذلك نحن أمام حقيقة واحدة واضحة هي أنه لا يمكن فصل الريع النفطي من ميزانية الحكومة، وأن التفكير في تبني ميزانية تعتمد على الإيرادات غير النفطية، وميزانيات مستقلة للقطاعات الحكومية المنتجة أمر لا يمكن تحقيقه، حتى مع جهود الحكومة في تخصيص المؤسسات الحكومية المربحة، وتسهيل الإجراءات والأنظمة وتوفير التمويل للقطاع الخاص لقيادة النمو واستيعاب جيش الباحثين عن عمل.
لقد اعتمدت السياسات الحكومية على القطاع الخاص في سياستها لخفض معدلات البطالة، مع تضييق الخناق على التوظيف في القطاعات الحكومية، إلا أن ذلك فشل في خفض معدلات البطالة، وليس هناك ما يشير إلى أنها تتجه إلى الانخفاض. ويبدو أن لا حل لذلك إلا بفتح القطاع الحكومي لتوظيف جيش الخريجين الجدد لعدة أسباب. وأهم تلك الأسباب يكمن في أن نسبة موظفي الدولة إلى عدد السكان تعد منخفضة، خصوصاً في القطاعات التي تتعامل مع المواطنين مباشرة. فقد أشار كثير من التقارير والدراسات إلى انخفاض عدد القضاة إلى عدد المواطنين، وانخفاض أعداد مراقبي ديوان المراقبة العامة إلى موظفي الدولة، وانخفاض عدد موظفي المرور إلى عدد السيارات، وموظفي أعداد الشرطة إلى عدد السكان، وعدد مراقبي البلدية إلى عدد المحال والمنشآت التجارية، وانخفاض أعداد المعلمين والمعلمات إلى أعداد الطلبة، وأعداد أعضاء هيئة التدريس إلى أعداد الطلبة، وأعداد الأطباء إلى المرضى، وهَلُمَّ جرّاً.
وجاء انخفاض تلك الأعداد والنسب بسبب التشدد في خفض بند الأجور في ميزانية الحكومة حيث تتجاوز فاتورة الأجور 100 مليار ريال. فصانع القرار يعتقد أنه وللسيطرة على عجز الموازنة الحكومية يجب التحكم في النفقات عن طريق السيطرة على فاتورة الأجور والمكافآت، والتحفظ الشديد في توقعات الإيرادات النفطية. ولكن هذه المعادلة الصعبة لم تحقق الهدف المرجو منها. فأسعار النفط وعائداته في تزايد مستمر، والنمو الاقتصادي في مستويات مستقرة وفي اتجاه ايجابي، لكن البطالة مازالت تضرب أطنابها في ثنايا الاقتصاد والمجتمع.
والحل لم يعد إلا بتغيير النظرة الحكومية في التعامل مع الميزانية. فلا يمكن التعامل مع موازنة دولة تعتمد على مصدر وحيد للدخل، ودون وجود نظام ضريبي بشكل مماثل لتعامل دول أخرى لها مصادر متعددة للدخل ونظام ضريبي متكامل مع موازناتها. فعلينا التعامل مع الموازنة الحكومية على أنها ريعية تعتمد على ريع النفط الذي يجب استخدامه في توظيف المزيد من الباحثين عن عمل لخدمة ومقابلة احتياجات النمو السكاني المتزايد. فلم يعد المهم الآن تقليص فاتورة الأجور بقدر الاهتمام بخفض معدلات البطالة وتوظيف المزيد لمقابلة الاحتياجات التنموية. فالحكومة (خصوصاً في القطاع الخدمي) تحتاج إلى توظيف المزيد من أجل رفد القطاع الخاص والمواطنين بالخدمات المطلوبة. وقد يعتقد بعضهم أن القطاع الحكومي مشبع بالموظفين، وأن هناك بطالة مقنعة، ولكن الحقيقة تكمن في أن هناك سوء توزيع في التوظيف الحكومي. فهناك بطالة مقنعة في بعض الدوائر الحكومية، وهناك انخفاض حاد في بعض الدوائر الحكومية الأخرى، كما هو واضح في انخفاض معدلات موظفي الحكومة إلى أعداد المستفيدين التي تم الاستشهاد بها في المقطع الثاني من هذه المقالة.
إن الوقت يبدو مناسباً الآن في تغيير السياسة المالية للحكومة بحيث تستهدف خفض معدلات التوظيف، خصوصاً أن الريع النفطي سيظل منبعاً غزيراً ولسنوات مقبلة لدفع فاتورة الأجور. وفي حال انخفاض دخل النفط، فإن موظفي الدولة سيكونون رافداً مهماً للقطاع الخاص، خصوصاً إذا نجح القطاع الحكومي في تهيئة موظفيه لبيئة التوظيف في القطاع الخاص.