تقويم الجامعات.. الهدف والوسيلة

[email protected]

منذ أن وجد الإنسان على هذه الأرض وهو يسعى جاهداً لإتقان ما يقوم به وإظهاره بأحسن صورة تمكنه ذلك، وهذا مبدأ ينطبق على عموم الناس وإن لم يكن كلهم. المرء أينما كان ومهما كانت الثقافة التي ينتمي إليها يرغب في أن يأكل طعاماً جيداً، ويسكن منزلاً جميلاً ومحكماً في بنائه وتصميمه، ويستخدم جهازاً أو آلة فعالة, وضررها معدوم, أو قليل في أسوأ الظروف, والأحوال. وبلوغ هذه الأهداف وغيرها من أهداف في المجالات كافة لا يمكن أن يتحقق دون تعليم, وتدريب جيد وفعال تظهر نتائجه في الوصول لهذه الأهداف في أفضل صورة وأقل تكلفة. ونظراً لأن المؤسسة التعليمية أياً كان مستواها, سواء في مرحلة التعليم العام, أو العالي, أو كانت مؤسسة تدريب تلعب دوراً بارزاً في تأهيل الأفراد, وإكسابهم المهارات اللازمة التي تمكنهم من بلوغ الأهداف, وتحقيقها بالصورة المثلى, لذا استوجب الأمر نشوء ثقافة التقويم للمؤسسات التربوية والتعليمية, خصوصا مؤسسات التعليم العالي والجامعات بحكم الدور البارز, والمهم الذي تقوم به في أي مجتمع وجدت، وبحكم ما يتوقع منها. ولأن الفكرة تتحول مع الزمن إلى واقع, وبرامج، وإجراءات، وقواعد وأنظمة ومؤسسات تخدم هذه الفكرة فهذا ما حدث بالفعل مع التقويم, حيث تشكلت له أدبيات واسعة, وتبلورت له مصطلحات من مثل التثمين، والمساءلة والمحاسبة، كما ارتبطت به مفاهيم أخرى من مثل الجودة، والاعتماد . كما طورت نماذج لتقويم المؤسسة التعليمية مثل نموذج التقويم بالأهداف، ونموذج تقويم المخرجات، ونموذج تقويم المدخلات والإجراءات والعمليات, ومع أن لكل نموذج من هذه النماذج مبرراته, وفلسفته التي يستند إليها إلا أن النموذج الشامل الذي يعتمد على تقويم المدخلات, والإجراءات، والمخرجات هو أفضلها, وهو السائد نظراً لأنه يتناول عناصر العملية التعليمية كافة ولا يستثني منها شيئاً. ومع زيادة الخبرة والمعرفة في هذه المجالات تشكلت معايير عالميه متعارف عليها لا بد من توافرها في المؤسسة التربوية, والتعليمية, ولا بد من توافر الحد الأدنى منها في المؤسسة التعليمية أو الجامعة إذا أريد لها أن تكون لها قيمة واعتبار وأثر واضح في المجتمع الذي توجد فيه. ومع أن قياس أثر الجامعة في محيطها يصعب تحديده بشكل دقيق إلا أن له مؤشرات كمية, وأخرى نوعية, وكيفية، فأعداد الخريجين، وتخصصاتهم, وقدرتهم على القيام بما هو متوقع في ميدان العمل, وبما يناسب تخصصهم، والحراك الاجتماعي، والوعي العام، وارتفاع مستوى الثقافة لدى الأفراد، والنمو الاقتصادي, والتنوع في ذلك، وقدرة المجتمع على إيجاد حلول لمشكلاته المادية والنفسية والاجتماعية، والمشاركة الفاعلة على المستوى الدولي في المجالات كافة, كل هذه وغيرها مؤشرات على فاعلية الجامعة في محيطها ومجتمعها وخارجه. عملية تقويم الجامعة أو المؤسسة عملية شاقة, وطويلة, وتحتاج إلى خبرات عالية, وموارد جيده, وتتناول عناصر كثيرة, وتحتاج إلى إجراءات, وأدوات عمل متعددة, فالزيارات الميدانية، والمقابلات الشخصية، والاستبانات التي تعطى لكل من له علاقة من طلاب، أساتذة، إداريين، أو مؤسسات اجتماعية تستفيد من مخرجات الجامعة، إضافة إلى الاطلاع على المطبوعات الخاصة بالجامعة, والتي تحتوي على الأهداف والرسالة والرؤية، ومحتوى ومضمون المقررات الدراسية. ومع أني تناولت في مقالات سابقه جودة التعليم إلا أن موضوع تقويم المؤسسة التعليمية وبالأخص الجامعات يحتاج إلى وقفة تناقشه من جوانبه كافة، خاصة بعدما انكشف من ردود فعل لترتيب جامعاتنا من قبل مؤسسات إعلامية لا ترقى لمؤسسات التقويم والاعتماد امتهنت ترتيب الجامعات, وأصبحت حرفة لها. وحتى يكون القارئ على بينة من الأمر لابد من الإشارة إلى أن الترتيب الذي تقوم به هذه المؤسسات ومنها على سبيل المثال لا الحصر المركز الإسباني، ومركز جامعة شنغهاي في الصين، ومركز ترتيب الجامعات في بريطانيا يمثل حافزاً, ومحركاً للجامعات على التنافس كي تظهر الجامعة بمظهر الحائز موقعا متقدما في عملية الترتيب . وإذا علمنا أن هذه المراكز تجري عملية ترتيبها بناء على ما تجده من معلومات حول الجامعات في موقع الجامعة وعبر الإنترنت، لذا تلزم الإشارة إلى أن ردود فعلنا, سواء كانت إيجابية أو سلبية, حسب موقع جامعتنا أو جامعاتنا لا بد من ضبطها, ومراجعة إيقاعها حسب قواعد ومضمون الجوهر, وليس المظهر الذي قد يريحنا مؤقتاً لكنه لا يقدم لنا, ولا لمجتمعنا ما يتطلع إليه الجميع. ويدل على أن ردود فعلنا متأثرة بشكل واضح بالصورة الظاهرة التبريرات اللامنطقية التي سيقت بعد إعلان نتائج ترتيب الجامعات من قبل المركز الإسباني, وتلك التي ذكرت بشأن تقدمنا على ألمانيا، وفرنسا، ومصر بشأن التعليم العالي. وبحكم انتمائي للتعليم العالي, ومشاركتي بسلبيات, وإيجابيات هذا الحقل, إضافة إلى متابعتي لشؤونه داخلياً وخارجياً، لذا لابد من التأكيد على أن اهتمامنا برفع مستوى التعليم العالي في بلادنا يتطلب فلسفة واضحة, ومحددة بشأن التقويم، والجودة، والاعتماد. الفلسفة هذه إذا ما توافرت من شأنها أن تبين لنا الصورة التي نريدها لجامعاتنا، ودورها في المجتمع، إن كان ما نتطلع إليه في هذه الجامعات هو مبان ومقار جميلة, وفخمة, وكبيرة فهذا متحقق ويمكن أن يتحقق، وإن كان ما نريد تحقيقه هو رفع كفاءة أداء المؤسسات بما فيها, ومن يتخرج منها فهذا شأن آخر له مستلزماته, ومتطلباته. لو أخذنا على سبيل المثال عنصراً من عناصر المدخلات كركيزة من ركائز أي عملية تعليمية, وتأملنا في آليات اختيار, وتأهيل مثل هذا العنصر لتبين لنا الإيجابيات, والسلبيات في هذا الأمر. عضو هيئة التدريس في الجامعة يعد أحد أهم العناصر, ومن أهم المدخلات في العملية التعليمية والبحثية، ولكن هل يا ترى يتم اختياره وفق أسس علمية وموضوعية تتناسب مع ما نتطلع إليه في جامعاتنا؟! المعيد أو المعيدة هو اللبنة الأولى, والأساس في تشكيل عضو هيئة التدريس المستقبلي وإن لم نبذل جهوداً دقيقة, ووفق إطار واضح ومحدد، وباتباع إجراءات مؤسساتية متعارف عليها لا يمكن أن نضمن الاختيار الأمثل. معيد يتم تعيينه ولا أقول اختياره بقرار خارج السياق المتعارف عليه والذي تنص عليه اللائحة لا يضمن لنا العنصر الجيد الذي يتناسب مع حقبة التنافس المعرفي, والثقافي الذي نشهده في الوقت الراهن, وسنستمر نعيشه إلى ما شاء الله. وإذا كان اختيار المعيد وسلامة إجراءات ذلك مهما, كما أوضحنا, فإن الجامعة التي يدرس فيها ويبتعث إليها لا تقل أهمية في كونها أحد عناصر الإعداد لعضو هيئة تدريس متميز, وكم تعاني الجامعات أعضاء هيئة تدريس درسوا في جامعات متواضعة. أعود وأقول إن قدرتنا على تشكيل فلسفة بشأن التقويم تركز على الجوهر سيكون من شأنها سلامة الإجراءات والممارسات, وانضباطها وفق الأنظمة, واللوائح, والمجالس المتخصصة بدلاً من تحولها إلى ممارسات فردية تغلب عليها العاطفة والمصالح. كما أن وضوح الأهداف في أذهاننا سيجعل تقويمنا منصباً على الإجراءات, والآليات, والفعاليات والإمكانات, وجميع العناصر التي توصل لهذه الأهداف.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي