ياسمين وبكر..(*)
.. لا يكفي اللحمُ والدمُ أن يجعلانا آباءً.. إن لم تسكن محبتنا لأبنائنا في القلب. لتنتقل هذه المحبة مع اللحم والدمِ إلى قلوب الإخوة الأبناء.. وهذا ما أثبتته رسالة البنت ياسمين.
وياسمين واحدة من البنات اللاتي يعشن في الخارج مع أخيها، بعد أن سافر الأب ولم يعد، وهي فتاة لم تعان من شظف الحياة، فقد كانت الأم مدبرة فأنهت الفتاة وأخوها تعليمهما، وياسمين عملت في شركة خدمية كبرى في أحد بلدان الشرق، وحياتها تسير بأمان، لولا أن الشوقَ يأكل قلبها لأبيها وأخواتها وإخوتها منه في إحدى المدن الكبرى في المملكة. ياسمين وأخوها حامد من الذين تواصلوا معي حين تناقل الناس والجمعيات اهتماماتي بهذا الموضوع، وما نشر في الصحف باللغة الإنجليزية عن الموضوع. وتلقيت رسالة بالأمس عبر البريد الإلكتروني من ياسمين، وهي رسالة رغم أن سطورها تغرف الدمع من نبع العيون إلا أنها دموع الفرح.. الفرح الذي تنشلّ أمامه الكلمات ويثور فيه طوفان الشعور.
وهنا بعض من رسالة ياسمين الطويلة (من الإنجليزية):
" في هذا البلد المسيحي لم يكن سهلا أن نتمسك بديننا الإسلامي، ولما مرة قرأت أنه يأتي على المسلم ظرف يقبض فيه المؤمن على دينه كما يقبض على الجمر.. بكيت من فرط الوصف وكأنه يحكي حالتنا تماما، وقد قلت لك في مجمع "أمة الإسلام" حين اجتمعت مع الأبناء والبنات العرب المتروكين هنا: "يا سيدي إن متعتي منذ قرأت ذلك القول وأنا بنت في الرابعة عشرة من عمري هي.. القبض على الجمر"، ما أجملها من متعة في الحرب والمعاناة القاسية من أجل أن تحمل الله في قلبك.
ربما نسيت من أنا، أو ربما كنت لا تتذكرني مطلقا ولكننا لن ننساك لأن الحدث لا يُنسى، ولكن أكثرنا، وأصدقك القول، خرج إما يائسا وإما ساخرا، فمنهم من رآك تحرث في بحر، ومنهم من رآك تجري وراء سراب.. أما أنا فقلت إنه يريد أن يصنع المستحيل، ولكنه إنسان، ولا إنسان يصنع المستحيل إلا إن عاونه الله... أمس يا سيدي عرفت أن الله معك، تحمله في قلبك، وتأكدت أن الإيمان في قلبي هو الذي حماني من مغريات ومن قسوة الحاجة.
أكتب لك لأني سعيدة يا سيدي، فالمستحيلُ حصل، وما زرعته لم يكن في بحر، أو الله شاء أن يجعل البحر سائغا للنبتة الخضراء أن تنمو وتزهر وتثمر.. وأكتب لكي أنقل لك الخبرَ السعيد بأن اللهَ معك. وخبرٌ آخر سيفرحني حتى أتوسد التراب، وهو أن أبي لم يكن سيئا، بل كان محبا، وإني أسامحه وأدعو له فربما تركنا لظرف فوق طاقته، ولكنه لو لم يكن يحبني وأخي "حامد" لما انتقل هذا الحبُّ لإخوتي وأخواتي.
اليوم في العشرين من هذا الشهر فبراير الساعة الثامنة صباحا هاتفتني أمي ثم أخي، ليخبراني أن شخصين من بلدنا هذا، ويعملان عندكم في السعودية، طرقا الباب، وكانا يبحثان عن بنت اسمها ياسمين وولد اسمه حامد ما خرج أبي كنت أنا في السابعة وأذكره جيدا، وأعرف تضاريسَ وجهه وبسمته ولون أسنانِه كما أعرف كفي.. ويبدو أن والدي قد ذكرني عند إخوتي، وذكر لهم عنوان البيت الذي اشتراه لنا من 18 سنة.. ولم يكن يدور بخلد المواطنين أننا ما زلنا في منزلنا، واعتقدا أنهما يبحثان عن إبرةٍ في تلٍّ من القش.. فلما رنّ الجرس، وخرج لهما أخي، كادا أن يغمى عليهما من الفرحة، فكانت سحنة أخي تفصح عن هوية عربية لا تخفى.. وعرفا أنهما وجدا ضالتهما.
"من أرسلكما؟" كان أول ما خرج من فمي لما التقيتهما.. ضحكا ودهشا، والتقط أحدهما طرف الكلام رادا علي: لقد أرسلنا السيد بكر وهو صاحب الشركة التي نعمل فيها في السعودية وأعطانا هذا العنوان وحذرنا أن العنوان قديم، وأنكما ربما غيرتما عنوانكما، أو درَس البيتُ، أو تغيرت أسماء الشوارع والميادين.. وقال لنا مهما يكن لا ترجعا من هناك أبدا دون خبر عن أختي وأخي.. وهنا ذابت الجاذبية من تحت قدمي، ودار المكانُ مثل إعصار التايفون.. وانطفأت الأضواءُ. غبتُ عن الوعي.
كانت ضرباتٌ تصرع أذني، وإذا هي والدتي تضرب وجهي بكفيها وتقرب النشادر بجوار أنفي ولم أع إلا وأمي تصرخ بوجهي: أخوك بكر، أخوك بكر.. "ماذا؟ ماذا عن أخي بكر؟".. وجاء صوتُ أمي متهدجا بالبكاء.. "إنه على الهاتف!"
وقبضتُ على السماعة حتى تنافرت عروق يدي وكأني أعصره شوقا وترقبا وحبا وخوفا، ورغما عني صرتُ أصرخ: "هالو.. هالو.." وبكر من الطرف الآخر.. بنفس النداء. ثم بدأ الحديث من بكر:
زهرة أنا أخوك بكر عندي أبناء وأحفاد، ولكن لم ينطفئ الشوق إليكم أبدا، ولكن الحياة تطمر أجمل ما فينا ونحن نجري في ساحات الحياة حيث الصراع والتنافس وإثبات الذات.. ويعلم الله وحده أني كنت أترقب هذا اللحظة للم الشمل، وأنا سأكون عندكم بإذن الله في هذا الأسبوع.. ثم صار ينشج ولم أعد أعرف ما يقول، ولا أظنه عرف حرفا مما قلته فقد كنت مثله أو أشد.. تركنا الهاتف لدقيقة بكر وأنا باقتراح مني لنسجد لله شكرا.. وحمدا.. ثم جرى حديث لساعة أو أكثر.. إنه يا سيدي أجمل وأعذب وأحب وأرق حديث أجريته في كل عمري.
أخبرت بكر عنك وعن اجتماعك بنا، وكيف أننا كنا نعتقد أن مجهوداتك قد تذهب مع الريح الموسمية.. ولكن الله دائما في عون العبد ما دام في عون أخيه.
ثم سألت بكر: أنت تحبني وأخي، وتشتاق لي ومنعتك ظروف الحياة، فما الذي دفعك الآن لكي تتصل بنا وتعيد رباط الأسرة من جديدة؟ فأجاب:
- مقالات قرأتـُها لنفس الشخص!
(*) الاسمان مستعاران..