من بوسطن إلى ثول

قبل سنوات روى لي صديق قصة عن تجربة مرت بها زوجته أثناء مرحلة دراساتها العليا في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية عقب أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) لعام 2001. إذ ألمّت بها ذات يوم آلام مبرحة في أسنانها اضطرتها إلى البحث عن أقرب طبيب من خلال الصفحات الصفراء في دليل الهاتف The Yellow Pages وبعد عدة محاولات أسفرت توسلاتها عن الظفر بموعد على قائمة الانتظار لدى إحدى العيادات الكبرى. كان عدد الأطباء العاملين في تلك العيادة ربما يفوق العشرين طبيباً في حقل طب الأسنان بتخصصاته المختلفة، كل له زبائنه المعتادون إلا القليل من المراجعين ومن بينهم بطلة القصة التي تركت قرار اختيار الطبيب في يد مسؤولة الاستقبال.

إلى هنا وقصة زوجة صديقنا تبدو عادية إلى أن جاء دورها حيث استقبلها الطبيب مُرحّباً، وأجرى المعاينة ثم العلاج، وقبل أن يودعها سألها عن جنسيتها، فأجابت بأنها من السعودية. هنا بدأ مغزى القصة يتبلور، إذ قال الطبيب إنه لم يسبق له أن قابل أو سمع بأحد من ذلك الجزء من العالم من قبل سوى مرة واحدة قبل نحو ثلاث سنوات عندما التحق ابنه في برنامج دراسة صيفية بأكاديمية إكزتر "Exeter Academy" في ولاية نيوهامبشير تّعرف من خلاله على شاب من السعودية ما لبث أن سلك طريقه إلى جامعة MIT في ختام ذلك البرنامج الصيفي. كان من المفترض أن ينتهي الحوار عند ذلك الحد، إلا أن بطلة القصة سألت الطبيب إن كان اسم ابنه "لوقان" فأجاب، وكله دهشة، بنعم، وازدادت دهشته أكثر عندما استطردت قائلة إن زميل ابنك السعودي الذي تحدثت عنه ما هو إلا أخي!
تداعت في خاطري تلك القصة أثناء الحفل الكبير الذي رعاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لوضع حجر أساس جامعة العلوم والتقنية التي تحمل اسمه في "ثول" يوم الأحد الموافق 21/10/2007. ففي ذلك الحفل قادتني صدفة، لا تقل غرابة عن القصة السابقة، للقاء أحد المدعوين كنت قد تعرفت عليه في عام 1969 أي قبل 39 عاماً في ظروف سأوردها فيما بعد، ولم ألتق به مرة أخرى منذ ذلك العام خلال تلك السنين المنقضية.
يومئذ كان سباق الفضاء بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي على أشده إلى أن حسم الأمريكيون النتيجة لصالحهم بإطلاق المركبة ( أبوللو 11) لتهبط على سطح القمر يوم الأحد الموافق 20 تموز (يوليو) 1969 بعد رحلة استغرقت أربعة أيام قطعت فيها مسافة 400 ألف كيلو متر تقريباً بقيادة الملاحين آرمسترونج Neil Armstrong وألدرين Buzz Aldrin ليصبحا أول شخصين في تاريخ البشرية تطأ أقدامهما ذلك الكوكب. في تلك الرحلة التاريخية بقي الملاحان على سطح القمر 22 ساعة أمضياها في إجراء تجارب علمية وتجميع عينات من الصخور بلغ مجموع وزنها 22 كيلو جرام.
شكّل الهبوط على سطح القمر فتحا جديدا للإنسان في مسيرته الدؤوبة نحو معرفة أسرار هذا الكون العظيم، ولعل من حسن حظ البعض منا أن كنا في مواقع قريبة من ذلك الإنجاز العلمي. فقد حرصت وكالة الفضاء الأمريكية على إشراك مراكز الأبحاث المرموقة في فحص ومعاينة الصخور التي جلبتها (أبوللو 11) من القمر لتحديد عمره ومقارنة ذلك بعمر كوكب الأرض ودراسات أخرى كثيرة صدرت عنها فيما بعد الآلاف من المطبوعات بأشكالها المختلفة.

في خريف ذلك العام 1969، عندما كنت طالباً في جامعة MIT سرى خبر أن الجامعة اختيرت كأحد المراكز التي ستشارك في فحص العينات الأولى من صخور القمر. وقد أكد لنا أستاذ المادة التي كنت أدرسها في علوم الأرض Earth Sciences في ذلك الفصل أن تلك الصخور في طريقها للجامعة. ولم يمض أسبوع أو حول ذلك إلا وفاجأنا ذلك الأستاذ في إحدى المحاضرات حاملاً بين يديه وبهدوئه المعروف جرامات معدودة من تربة القمر في وعاء زجاجي محكم الإغلاق لمعاينتها عن كثب قبل إخضاعها لعمليات الفحص والاختبار في المعمل تحت أحوال منضبطة.
بقيت تلك الواقعة حية في ذاكرتي طوال تلك السنين، ولم يدر بخلدي يوماً أن أستعيد شريطها مع أي من أطرافها لبعد المكان والزمان. لكن من عجائب القدر أن ألتقي ذلك الأستاذ بعد 39 عاما في قرية صغيرة حالمة على ساحل البحر الأحمر لم يسمع بها أحد من قبل سوى أهلها والحاضرة القريبة منها وأولئك الذين يعشقون أكلة سمك على طريقة "ثول ".
ففي الحفل الذي أقيم لوضع حجر أساس جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية كان هناك حضور دولي ضم العديد من القيادات الأكاديمية في الشرق والغرب التي اختيرت بعناية كما يبدو من سيرهم الذاتية. وبمحض الصدفة وجدت نفسي في بهو الاستقبال واقفاً مع بعض من أولئك العمالقة ولمحت على بطاقة التعريف لأحدهم اسم فرانك بريس Frank Press كان رجلاً على عتبة التسعينيات من العمر، غير أن السنين لم تأخذ شيئا من نبرة صوته أو حضور ذهنه . ذكرتّه بصخور القمر فتذكرني، واستعدنا معا ما أسعفتنا به الذاكرة عن تلك الأيام الخوالي!
حقنا إننا نعيش في عالم صغير, وليس من المستبعد أن نرى فيما بقي من العمر قصة مشابهة تجري أحداثها بين ثول وبوسطن مع تبادل في الأدوار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي