أساتذة الجامعات.. عقول غنية وجيوب فقيرة
كعادته كل يوم, بقي ملازما مكتبه في الجامعة حتى وقت متأخر من ذلك اليوم, يكتب ساعة ويقرأ ساعة ويفكر ساعة, وكم كان يتمنى أن يكون لليوم أكثر من 24 ساعة لأنه لم تعد تكفيه عشر ساعات عمل يوزعها بين الدرس والبحث والقراءة وأمور طلابه وتلامذته. لم تنفع معه توسلات أبنائه وزعل زوجته بأن يغير من عادته, كان يعدهم وهو يعرف أن ذلك من حقهم ولكنه في قرارة نفسه كان يعلم أن وقته ليس ملكه ما دام هناك بحث لم ينته منه وموضوع جديد شرع في كتابته, وكتاب جديد اقتناه حديثا ينتظر منه قراءته. كان على وشك أن يلملم أوراقه وأن يحشرها في شنطته, وهو كما هو في كل مرة يطلب من نفسه بل يتوعدها أن تعطيه من ليله وقتا ولو قصيرا لمراجعة كتاب أو استكمال كتابة موضوع لم ينته منه ذلك اليوم, ولكنه ترك كل شيء على حاله وأسرع إلى باب المكتب ليرى من الطارق وإذا بشاب أخذ يعانقه بحرارة وهو يردد عليه كلمة أستاذنا وأستاذنا, ولم يترك له فرصة ليتذكر من هو, فهو يعلم أنه أحد تلامذته السابقين ولكنه لمجرد أن سمع اسمه عرفه بشكل مفصل, فهو أحد طلابه المتميزين ومن دولة خليجية مجاورة وابتعث لاستكمال دراساته العليا في الخارج, وهذا آخر ما يعرف عنه, أخذ يسأله عن تجربته في الدراسة في الخارج وعن تخصصه وكيف تسير الأمور بعد عودته وماذا عن التدريس في الجامعة, كان يستوفقه ويشكره على ما كان يلقاه منه من تشجيع لمواصلة دراسته والتخصص في المجال الذي هو فيه الآن. ليس من عادته أن يسأل عن الأمور المادية ولكنه هو الذي أجاب عنها وأشار إليها دون سؤال, فذكر له أن راتب أستاذ الجامعة عندهم يبدأ بستة وثلاثين ألف ريال من غير المخصصات الأخرى, لم يطلب منه إعادة ما قاله لأن ما سمعه كان واضحا وكاد يسقط منه كوب الشاي وهو يقول له هذا الراتب خير وبركة. ثم ابتسم وقال له على هذا سيكون راتبك يتجاوز الخمسين ألف ريال في سنوات قليلة, ولم يتركه يكمل جملته وهو يقول نعم, إن شاء الله, وأنت تعلم يا أستاذ أن من حقنا ذلك ونحن من انشغلنا بالدراسة عن التأسيس لحياتنا ومستقبل أطفالنا. سأله عن الحال عندهم وقد سمع أن رواتبهم ضعيفة بعض الشيء, فقال له وهو يبتسم, الحمد الله ولكن يراد لنا 50 سنة بعد سن التقاعد لنصل إلى رواتبكم, وأنتم في أول السلم, أحس التلميذ السابق وأستاذ اليوم بتغير وجه أستاذه وبانت علامات التأثر في محياه فغير الموضوع بسرعة وأخذ يتكلم عن الأبحاث الجديدة في مجال تخصصه وهو يعده بأن يرسل له نسخة من بحثه وبعض الأوراق العلمية التي شارك في كتابتها ونشرها في المجلات العلمية, وبعدها ودعه وهو يلح عليه بقبول دعوته لزيارتهم واستضافته في الجامعة التي هو فيها.
لم يسمع الكلمات الأخيرة التي تفوه بها التلميذ السابق والأستاذ الحالي وهو يغلق باب المكتب عليه, أراد أن يعود إلى شنطته وأن يستكمل ترتيب أوراقها وصف كتبها ومغادرة المكتب ولكنه بقي متسمرا في كرسيه, أخذ ينظر إلى كتبه وأوراقه المتناثرة على سطح المكتب وكأنه يعاتبها, أليس عشقه لها هو الذي أوصله إلى ما هو عليه الآن؟ فالكلام الذي سمعه قبل دقائق ذكره بسؤال ابنته في الأمس, فها هو الآن وقد تجاوز الخمسين من عمره, وليس عنده بيت ملك, وها هي ابنته تسأله متى يتحقق هذا الحلم, استغلت زوجته سؤال البنت وعاودت سؤالها عن منحة الأرض التي حصل عليها كأستاذ جامعي قبل أكثر من 12 سنة, هو لا يزال يحتفظ بقسيمة تلك المنحة ويحفظ رقمها وتاريخها وعدد أمتارها, ولكنها بقيت كما هي ورقة لا تزيد مساحتها على 25 سنتيمترا مربعا وليست أرضا بتلك المساحة التي وعد بها. كان يراجع ويسأل ويحاول أن يوسط من يعرفه لمساعدته ولم يتوقع أن الأمر سيبقى مستعصيا عليه كل هذه السنين الطويلة, هل كنت سأحتاج إلى هذه المنحة لو كان راتبي مثل راتب تلميذي السابق؟ ابتلع هذا السؤال وهو يلتقط جواله ليرد على مكالمة زوجته وهي تذكره بأن الساعة تقترب من السابعة فطمأنها بسرعة قدومه. رمى بشنطته في السيارة بغضب لم يعهده من قبل فخرجت منها بعض الأوراق فدفعها دفعا إلى الداخل وترك بعضها. بعد لحظة عاد له هدوءه, استغرب من نفسه كل هذا الشعور بالمرارة لمجرد أن انكشف له أنه في الحقيقة فقير وفقير جدا, فكيف لا يكون فقيرا وهو في هذه السن لا يمتلك بيتا خاصا به وراتبه بالكاد يكفيه حتى نهاية الشهر بشرط ألا يقتطع منه شيئا لشراء كتب أو الاشتراك في مجلات علمية, فغيره يدفع أقساط البيت والسيارة وهو يدفع أقساط الكتب والمجلات لأن البيت لم يأت والسيارة هي نفسها لم تتغير.
تذكر عندما اقترحت عليه مجموعة من زملائه التقدم معهم باقتراح بحث لإحدى المؤسسات العامة وأن هذا البحث سيعود عليهم بمردود طيب لهم ولمختبراتهم, فهم القلة ممن لهم خبرة ودراية في مجال الدراسة وأن الفرصة سنحت لهم لإثبات علميتهم وجدارتهم في تخصصهم وأنها فرصة أيضا لتبديد خوفهم من أن بقاءهم في التدريس هو ضياع لهم وتبديد لأحلام أسرهم. واصلوا الليل بالنهار لإعداد هذا المقترح واستعدوا بكل ما عندهم من معرفة واطلاع لتقديمه بأفضل صورة ممكنة. لم يستغرق الاجتماع بمسؤول تلك المؤسسة أكثر من نصف ساعة, أشاد بجهودهم وثمن ما قاموا به من عمل ووعدهم بالتعاون الكامل معهم لاستكمال هذا البحث, وكل هذا كان قبل أن يطلع على الميزانية المخصصة للبحث التي كانت خجولة بمقاييس البحوث التي يعلمون عنها في الجامعات العالمية, ولكن بمجرد أن سمع المسؤول بأن لهذه الدراسة ميزانية حتى تغير وجهه وصار يشغل نفسه بالأوراق التي أمامه وكأنه يريد متعمدا أن ينتهوا من عرضهم, وبعد ذلك قال لهم إنه صدم وتأثر كثيرا لأن ما توقع منهم هو غير ذلك, فهو توقع منهم عملا تطوعيا وخدمة وطنية وأن عملهم هذا هو جزء من مسؤوليتهم كأساتذة في الجامعات, وصار يعدد لهم حقوق المجتمع عليهم وأنهم يجب ألا يكونوا ماديين وأن يتركوا الأمور المادية لغيرهم. انتهت المقابلة ونسي الموضوع إلا أنهم سمعوا أن المؤسسة نفسها تعاقدت مع شركة بحثية في الخارج وبملايين الريالات للقيام بالدراسة نفسها وبالتفاصيل نفسها التي كانوا ينوون القيام بها. على الرغم من قساوة التجربة إلا أنها لم تزعزع إيمانه بالعلم ولم تقنعه بترك الجامعة والتدريس فيها إلا أنه كان لها تأثير قوي في بقية زملائه, فالكثير منهم من هجر الجامعة والبقية منهم صارت الجامعة والتدريس والانشغال بالبحث والقراءة في ذيل قائمة اهتماماتهم, إن هي بقيت أصلا في القائمة, فالبعض منهم من فتح له مخبزا أو مطعما أو بقالة أو محل أبو عشرة أو أبو ريالين وصار يلقاهم مصادفة في السوق أكثر مما يلقاهم أو يجتمع بهم في الجامعة. أما هو فبقي يعجن ويخبز في مطبخه الجامعي ويقدم خبزه حارا طازجا لطلابه وتلامذته. ولم ينس تلك اللحظة المجنونة التي فكر فيها أن يهجر جامعته وأن يغادرها إلى خارج وطنه, لم تكن فكرته في الأصل ولكن أحد أساتذته السابقين طرح عليه هذه الفكرة عندما التقاه في مؤتمر خارجي وهو من أصل عربي ولكنه استقر في الجامعة التي درس فيها وأخذ جنسية ذلك البلد, لكنه بسرعة طرد هذه الفكرة من رأسه ولم يسمح لها بأن تنام معه ولو لليلة واحدة, فهو في السابق وفي الحاضر لا يزال يؤمن بأن لأستاذ الجامعة رسالة ورسالته هو أن يخدم وطنه ومجتمعه وتبقى الأمور الأخرى مهما كانت مؤلمة إلا أنها لا تنال من إيمانه هذا.
رفض الهجرة الدائمة ولكنه اقتنع بالهجرة المؤقتة, كان يتمنى أن يعود إلى جامعته ولو لفترة مؤقتة لتجديد نشاطه العلمي وأن يتيح لنفسه الفرصة للاحتكاك بأساتذة كبار في تخصصهم, وهم كبار في السن, وقد لا يسعفه الزمن لمجاورتهم والاستفادة من علومهم, فكان القرار بأخذ سنة تفرغ علمي ليذهب ويجلس مرة أخرى تلميذا ومستمعا ومحاورا لهؤلاء الأساتذة الأساطين في علومهم. كان يعلم أن التقديم لهذا الأمر في حاجة إلى متابعة ولكنه كان مقتنعا بجدوى قراره, وعندما ذهب ليتسلم قرار الموافقة بالتفرغ من قبل الموظف المختص, عاد فرحا بالقرار ولكنه كان يهز رأسه ويتكلم مع نفسه ولم ينتبه إلى ذلك إلا بعد أن أحس بطبطبة على كتفه من زميل له يسأله مستغربا عما يشغله, لم يلتفت إلى سؤاله لأن الكلام قد تجمعت حروفه على لسانه, صار يعدد له ما أخبره الموظف عما سيحسم من راتبه في أثناء تفرغه, لم يرغب في الرد على الموظف لأنه يعرف أنه ينفذ ولا يصدر القرارات, ولكنه قال له:هل هذه الحسومات عقوبات لمن يريد التفرغ وتطوير نفسه علميا ومعرفيا؟ وما بالكم تأخذون حتى مكافأة استخدام الكمبيوتر؟ وهل في ظنكم أنني سأقضي هذه السنة منبطحا ونائما على سريري, أم أنكم تحسبون أن الكتابة ما زالت بالريشة والدواة؟ وأخيرا قال له خذوا ما تشاؤون ولن يثنيني ذلك عن الذهاب والتفرغ للقراءة والكتابة لسنة واحدة, خذوا حتى ورقة المنحة التي اصفرت لطول ما مر عليها من زمن وذنبي أنني شاركت أهلي وعيالي الحلم بأنها ستكون يوما ما أرضا ونبني عليها بيتا وليس قصرا. خذوا ما تشاؤون واستقطعوا ما تريدون فلم تعد عندي أحلام ولا أريد أن تكون عندي أحلام. لم يقاطعه زميله واكتفى بابتسامة مصطنعة وعاود الطبطبة على كتفه متمنيا له رحلة علمية موفقة.