كيف يتحدد اختصاص المحاكم التجارية؟ (1 من 3)
لا ريب أن نظام القضاء ونظام ديوان المظالم الجديدين الصادرين بالمرسوم الملكي رقم م/78 وتاريخ 19/9/1428هـ سيحدثان عند تطبيقهما نهضة تنظيمية إصلاحية وتطويرية كبرى لمرفق القضاء والعدالة. ولا أهدف من هذا المقال إلى التطرق إلى تعداد وشرح مزايا هذين النظامين الجديدين، فهذا أمر يحتاج إلى بحث مستفيض ليس هنا مكانه وإنما أود أن أشير إلى إحدى مزايا نظام القضاء الجديد وهي إنشاء محاكم متخصصة مثل المحاكم التجارية والمحاكم العمالية ومحاكم الأحوال الشخصية، فالمحاكم المتخصصة تؤدي إلى تخصص القضاة تخصصا نوعيا يسهم في تعميق وتركيز الخبرات وتجويد العمل وسرعة الفصل في القضايا. وبيت القصيد في هذا المقال، تسليط بعض الضوء على كيفية تحديد نطاق اختصاص القضاء التجاري (المحاكم التجارية) لأن الاختصاص هو الذي يحدد القضايا التي تباشر المحكمة وظيفة القضاء بشأنها.
ومن نافلة القول أن المحكمة التجارية تختص بالفصل في القضايا التجارية، ولكن التساؤل يثور هنا عن المعيار الذي يميز القضية التجارية عن غيرها من القضايا؟ الإجابة عن هذا التساؤل تعتمد على تعريف المشرع للتاجر والأعمال التجارية، وتعتمد أيضا على الأساس الذي وضعه المشرع لتطبيق القانون التجاري. ونبدأ بالحديث عن تعريف التاجر في ضوء أحكام النظام وآراء فقهاء القانون التجاري والسوابق القضائية في هذا الشأن بشكل موجز وبالقدر اللازم لموضوع هذا المقال، فنقول إنه بالرجوع إلى النظام التجاري السعودي المسمى (نظام المحكمة التجارية) الصادر بالمرسوم الملكي رقم (32) وتاريخ 15/1/1350هـ، نجد أن المادة الأولى منه قد عرفت التاجر بأنه (التاجر هو من اشتغل بالمعاملات التجارية واتخذها مهنة له).
ومن هذا التعريف يتضح أنه يكفي لاكتساب الشخص صفة التاجر أن يزاول العمل التجاري على سبيل الاحتراف. ومفهوم الاحتراف في فقه القانون التجاري المقارن هو (توجيه النشاط على نحو رئيسي ومعتاد إلى القيام بالأعمال التجارية بقصد الحصول على الربح).
وأخذ فقهاء القانون التجاري السعودي بهذا الرأي ونضرب على ذلك مثلا بما قاله الدكتور محمد حسن الجبر – يرحمه الله – في كتابه القيم (القانون التجاري السعودي) إذ أشار إلى أن احتراف التجارة (لا يعدو أن يكون مباشرة الأعمال بصورة رئيسية معتادة بغية الكسب والارتزاق، وأن الاحتراف بهذا المعنى يقتضي بالضرورة تكرار القيام بالعمل والاعتياد على ممارسته وعليه فإن قيام الشخص ببعض الأعمال التجارية المتفرقة بصورة عارضة لا يكفي للقول بتوافر ركن الاحتراف واكتساب صفة التاجر).
ومن المستقر عليه في الفقه والقضاء أنه يجوز الجمع بين احتراف التجارة ومهنة أخرى كالتدريس أو الزراعة أو الطب وأن هذا الجمع لا يؤثر في اكتساب صفة التاجر طالما توافرت شروطها. وفي هذه الحالة يطبق القانون التجاري على أعمال الشخص التجارية ويطبق على أعماله الأخرى القانون الذين نظمها ويحكمها إلا أنه إذا توقف عن دفع ديونه التجارية وأشهر إفلاسه نتيجة لذلك، فإن آثار الإفلاس تتصرف إلى كامل ذمته المالية طبقا لمبدأ وحدة الذمة الذي تأخذ به الشريعة الإسلامية السمحة وقوانين بعض الدول.
كما أنه يشترط لاكتساب الشخص صفة التاجر أن يقيد اسمه في السجل التجاري، أو أن يحصل على ترخيص من جهة الاختصاص، وإنما يكفي مزاولة العمل التجاري على سبيل الاحتراف، لأن الاحتراف يكفي بذاته لتكوين صفة التجار أما عدم القيد في السجل التجاري أو عدم الحصول على الترخيص النظامي فيعتبر مخالفة نظامية تجعل مرتكبها عرضة للجزاءات النظامية المقررة لهذه المخالفات. كذلك لا يؤثر في اكتساب صفة التاجر أن يكون الممارس للعمل التجاري من الأشخاص المحظور عليهم نظاما ممارسة التجارة مثل موظفي الدولة، والحكمة من اعتبار هؤلاء الممنوعين من مزاولة التجارة تجارا هي حماية الغير الذي يعتمد على الوضع الظاهر، أما مخالفة الحظر فيترتب عليه جعل المخالف عرضة للمساءلة والجزاءات المقررة نظاما كالفصل من الوظيفة.
وجدير بالذكر أنه في جميع الأحوال يتعين إلى جانب الاحتراف أن تتوافر في ممارس، العمل التجاري أهلية احتراف التجارة وهذا ما قررته المادة الرابعة من نظام المحكمة التجارية حيث نصت بأن (كل من كان رشيدا أو بلغ سن الرشد فله الحق أن يتعاطى مهنة التجارة بأنواعها).
وقد حدد مجلس الشورى في قراره رقم 114 وتاريخ 5/ 11/1374هـ سن الرشد في المملكة بـ 18 سنة هجرية.
وقد استقر قضاء الدوائر التجارية في ديوان المظالم على الاعتماد على (الاحتراف) كمعيار رئيس لاكتساب الشخص صفة التاجر ونضرب على ذلك مثلا بالقرار رقم 207/ت/ع لعام 1409هـ إذ جاء فيه ما يلي:ـ
(وصف العمل بأنه تجاري لا يتوقف عن صدور ترخيص من الجهة المختصة بمزاولة مهنة التجارة، وإنما العبرة في ذلك هي باحتراف التجارة وتوافر شروط اكتساب الصفة التجارية في حق من يزاولها، فمتى تحققت هذه الشروط أصبح العمل تجاريا وخضع من يزاوله للأحكام المنظمة للأعمال التجارية التي تختص الدوائر التجارية بديوان المظالم بتطبيقها بغض النظر عما إذا كان المحترف للتجارة قد توافرت في حقه الأسباب المبيحة لمزاولة التجارة أم أنه ما زال ممنوعا عنها وفي الحالة الأخيرة يظل مسؤولا عن مخالفته للأحكام التي تحظر عليه مزاولة التجارة ويخضع للعقوبات المقررة في هذا الصدد).
وجدير بالذكر أن فكرة الاحتراف لا تنطبق إلا على الشخص الطبيعي، أما الشخص الاعتباري (الشركة) فإنه يكتسب صفة التاجر إذا كانت الأغراض المنصوص عليها في عقد أو نظام تأسيسه تدخل ضمن نطاق الأعمال التجارية.
ونخلص من جميع ما سبق إلى أن الشخص إذ اكتسب صفة التاجر أصبح ملزما بالالتزامات المقررة في القانون التجاري مثل مسك الدفاتر التجارية والقيد في السجل التجاري والتقيد بقواعد وآداب سلوك العمل التجاري.