تصريحات قنصل (بنجلادش) عن عمالة بلاده بين الإثبات والنفي!
نشرت صحيفة "الحياة" في تاريخ 4/1/1429هـ، حديثا مسهبا للقنصل البنجلادشي حول وضع عمالة بلاده في المملكة، ذكر فيه أنهم يبلغون مليون ونصف المليون عامل، وأن هذا العدد سيتضاعف قريبا!.. نافيا بذلك صحة التقارير الرسمية والصحافية التي تذكر أن هذه الفئة من العمالة هي الأكثر تورطا في الجرائم، من بين الجاليات الموجودة في المملكة، كما نفى في حديثه أن تكون هذه العمالة هي الأكثر هروبا من مستخدميهم، مشيرا في الوقت ذاته إلى العوامل التي تدفعهم إلى الهروب، ومنها أن رواتبهم مخجلة (هكذا) لا تكفي لتغطية حاجاتهم الخاصة، وبالتالي يضطر بعضهم إلى الهرب اعتقادا منه أنه سيحصل على دخل أعلى، وبعد اصطدامه بصعوبة الأمر، يضطر إلى القيام بأعمال غير مشروعة!..
وذكر سعادة القنصل، تعليقا على زيارة وزير العمل السعودي، على رأس وفد رسمي لبلاده، لحضور اجتماع اللجنة السعودية البنجلادشية المشتركة، ومناقشة مشكلات رعايا بلاده في المملكة، ذكر أنه يبدو غريبا طرح مشكلات العمالة في هذا الاجتماع الذي يفترض أن يناقش سبل تعزيز التعاون الاقتصادي بين البلدين!
هذا هو ملخص حديث سعادة القنصل الذي لم يكن يعنيني التعليق عليه، لولا أنني لمحت فيه ما يشبه الاستفزاز لمشاعر كل المواطنين الذين احتضنوا المليون والنصف من هذه العمالة، وفتحوا لهم بيوتهم ومتاجرهم، وكذا مشاعر سلطات الأمن المنشغلة صباح مساء بملاحقة من يتورطون في عمليات إجرامية منهم، وكذلك مشاعر الكتاب والصحافيين الذين كانوا خلف التقارير التي تنشر يوميا في الصحافة المحلية، حول مخالفات هذه الفئة!.. وقد لا يلام سعادة القنصل في الدفاع عن بلاده، وتحسين صورة عمالتها لو كان ما يقوله صحيحا، أو لو أنه التزم جانب الموضوعية، ولم ينف كل ما يعلن من تقارير رسمية عن ممارسات هذه العمالة، أو لو أنه على الأقل أقرّ ولو جزئيا بفضل الحكومة السعودية ومواطنيها، في احتضان مليون ونصف منهم، والذين يذكر سعادة القنصل أنهم سيصبحون ثلاثة ملايين قريبا!.. ربما بناء على معلومات يحتفظ بها، لكننا نعتقد أنه مع افتراض ذلك، أي وجود المعلومة لديه، فإن الأحق بنشرها هو الجهة الرسمية المسؤولة عن العمالة، وهي وزارة العمل، وليس سعادة القنصل، إلا إذا كان القصد هو الاستفزاز، كما ألمحنا!..
نحن نعلم أن الهروب وارتكاب المخالفات والجرائم ليس قاصرا على مواطني دولة دون أخرى، بما في ذلك الدولة المستضيفة، وأن نزعة الشر مرتبطة ببعض البشر أين ما كانوا، لكن هذه النزعة تقوى وتخبو بفعل عوامل تربوية ودينية واجتماعية واقتصادية، وأنه كلما كان تأثير هذه العوامل إيجابيا في خُلق الإنسان، فإن ذلك يقوده إلى احترام ذلك الخُلق سلوكا وممارسة، ومحاولة تحسين سمعة مجتمعه، وهو يمثله لدى الغير، كما نعلم أن الشعب البنجالي شعب مسلم يستحق المساندة والدعم، وهو ما تفعله المملكة باستمرار، وتضاعف منه في الأزمات والكوارث، لكننا لا نستطيع تفسير الممارسات السلبية التي أصبحت مألوفة وملتصقة بهذه الفئة!.. ، إلا أن تكون غالبية من يتم استقدامهم هم من العاطلين والأميين والفقراء الذين لم يجدوا عملا في بلادهم فألفوا الجريمة، وأغراهم القدوم إلى المملكة بالرواتب المتدنية وهم لا يفكرون فيها إلا كوسيلة لوضع أقدامهم ومن ثم التفكير في الهروب للبحث عن دخل أعلى، بصرف النظر عن نوعية العمل الذي يمارسونه!...، وقد اعترف سعادة القنصل بذلك عندما قال (وبالتالي يضطر بعضهم إلى الهرب اعتقادا منه أنه سيحصل على دخل أعلى، وبعد اصطدامه بصعوبة الأمر يضطر إلى القيام بأعمال غير مشروعة)، أي أن سعادته لديه معلومات عن الإزعاج الذي تسببه عمالة بلاده للمواطنين والسلطات لكنه يحاول تجاهلها حينما يستغرب سفر وفد سعودي إلى بلاده، لمناقشة مشكلات رعاياها، محاولا بذلك التقليل من حجمها وتأثيرها!...
إن وضع هذه الفئة قد غدا مزعجا لمستخدميها وللسلطات على حد سواء، ولا يغير من الواقع نفي سعادة القنصل لما يقال وينشر من تقارير، يزيد من تأكيدها أن السلطات الأمنية تذكر جنسيات المخالفين ومرتكبي الجرائم، بمن فيهم مواطنو المملكة !... أما الهروب الجماعي فتشهد به الوثائق الرسمية التي في أيدي المواطنين، بيد أننا كنا نتمنى، ولو من باب المجاملة بمراعاة العشرة، أن يعد القنصل بالتعاون مع السلطات السعودية للبحث عن أفضل الحلول لتقليل حجم المشكلة، وليس التزام النفي، وإنكار حقنا في الشكوى، عندما يبدي استغرابه من طرح مشكلات العمالة في اجتماع اللجنة المشتركة، الذي قال إنه يفترض أن يناقش سبل تعزيز التعاون الاقتصادي، وكأنه لا يعلم أن هذه العمالة هي أهم داعم لاقتصاد بلاده!...
أما عن الوفد السعودي المكلف بمناقشة مشكلات العمالة من خلال اجتماعات اللجنة المشتركة، فإننا ونحن نردد صباح مساء المثل الشعبي (يا من شرى له من حلاله علّة)، نتمنى أن تكلل جهوده بالنجاح، وأن يوفق معالي وزير العمل ومعاونوه، في الوصول إلى ما يؤدي إلى التخفيف من معاناة المواطنين والسلطات والمجتمع بأسره من مشكلات هذه العمالة، وإن كنا نستحضر في الوقت ذاته مثلنا العربي (يداك أوكتا وفوك نفخ)!...، وقد فتحنا الأبواب على مصاريعها لهذه العمالة حتى غدت البلاد تنوء بمشكلاتها!...
وأختم بأن أهدي لسعادة القنصل تجربتي الشخصية كشهادة ضمن آلاف الشهادات التي لن يتأخر المواطنون عن الإدلاء بها لو طلب منهم ذلك، فقد استقدمت عاملين لاستراحتي براتب يعد من أعلى مستويات رواتب هذه الفئة، مع توفير سكن وبيئة عمل قلما تتوافر في أوساط العمالة، فضلا عن التقدير والمعاملة الإنسانية، ناهيك عن الصبر حتى تعلما مبادئ العمل والقيادة، وقمت بتوفير سيارة لطلباتهما، وكان المقابل أن قاما بسرقة استراحة الجار!...، ورغم التجاوز عن هذه الجريمة، وعدم إبلاغ السلطات عنها، فقد احتال أحدهما وحصل على قيمة تذكرة سفر إلى بلاده مرجعا بناء على طلبه، في مقابل أن يلغي سفره في إجازته، ولم أكن أعلم أن ذلك كان تمهيدا لهروبهما، وتركي أكتفي بترديد المثل العربي (اتّق شر من أحسنت إليه)!...
كما أهدي إليه آخر ما اطلعت عليه من الجرائم المنسوبة إلى هذه العمالة، وأنا أكتب مسودة هذا المقال، يوم السبت الماضي في صحيفة "الرياض" في الصفحة 14، وهي جريمة تقشعرّ لها الأبدان، ولا أستطيع ذكرها مراعاة لمشاعر القراء.
والله من وراء القصد.