يمشي الضعيف وكل شيء ضده
لدينا عادة عجيبة في مجتمعنا ! فنحن نصر، في البدء، على إنكار وجود ظواهر اقتصادية واجتماعية سلبية، وكأننا مجتمع محصن ضدها. وفي مرحلة لاحقة نقر بوجودها لكننا نقلل من شأنها. وهذه العادة تجعلنا نتأخر عن اتخاذ الإجراءات والسياسات المناسبة لمواجهة مثل هذه الظواهر قبل استفحالها. وحتى إذا اتخذنا شيئا من هذه الإجراءات، فإنها تكون جزئية غير فعالة وغير كافية. إن طبيعة الحياة هي تغير الظروف وتبدل الأحوال، وهي طبيعة تستدعي منا حراكا مستمرا واستعداد مناسبا لتقبل التغييرات والتصدي لها بالمناسب من الإجراءات. إن السياسات الاقتصادية والإجراءات الإدارية والتنظيمية التي ربما كانت صالحة لإدارة مجتمعنا في الماضي، لا يمكن أن تكون صالحة لنا في يوم الناس هذا. فزيادة عدد السكان، وتنوع مشارب فئاتهم وجنسياتهم وأعمارهم، إضافة إلى انفتاحنا على العالم في عصر ثورة الاتصالات، يفرض علينا تحديات جديدة، تستوجب سرعة التصدي للمستجدات، وأساليب علاج مغايرة لما ألفناه.
ترددنا وتأخرنا في الاعتراف بوجود بعض الظواهر الاجتماعية، كظاهرة تنامي بعض الجرائم التي لم نعهدها سابقا. ثم بدأنا أخيرا في الاعتراف بوجودها. وتأخرنا كذلك في الاعتراف بمعاناتنا من ظاهرة التشدد الديني والتمسك بالتفسير والرأي الواحد في قضايا هي بطبيعتها تحتمل تعدد الآراء. مع أن الناظر في الأحكام الشرعية الخمس، يرى أن أربعة منها وهي الواجب والمندوب والمكروه والمحرم، هي دوائر محدودة وصغيرة مقارنة بدائرة المباح، وذلك لحكم يراها المولى عز وجل. فدائرة المباح واسعة، يندرج تحتها أمور كثيرة في حياة الناس اليومية، وهي تلك التي سكت عنها الشارع فلم يوجبها أو يحرمها، لذا صنف علماء أصول الفقه هذا الحكم أنه ما لا يثاب فاعله (إلا إذا اقترن بنية) ولا يعاقب تاركه.
وتأخرنا في الإقرار بوجود بعض المشكلات الاقتصادية. كمشكلة البطالة التي سكتنا عنها حينا من الزمن ثم برعنا في التقليل من شأنها، وحتى الآن لم نستقر على حقيقة معدلها. كما تأخرنا في التصدي لمشكلات أخرى، كمشكلة تدهور مستوى التعليم كما وكيفا، فلا القطاع العام جارى النمو في الطلب على التعليم، ولا تركنا القطاع الخاص ينطلق ليسد ما يستطيع من النقص في عرضه. في حين قامت بذلك دول مجاورة لنا، هي أقل منا عددا في السكان وحظا في الموارد. أما تخلف قطاع العقار والإسكان وما فيه من مشكلات عصية، فلا يحتاج إلى بيان، وقد كتبت عنها بالتفصيل غير مرة.
أما اليوم، فإن هّم الناس جميعهم هو الغلاء. وهي ظاهرة جد خطيرة على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وكنت قد نبهت إليها مبكرا قبل نحو أكثر من سنة، ودعوت إلى ضرورة مراقبة التضخم، وعدم الاستهانة بمقدماته، التي انطلقت مع ارتفاع أسعار الأدوية وبعض مواد البناء، لأنه ظاهرة حلزونية إذا انفلت عقالها ضربت في كل قطاع وعلى جميع الاتجاهات. كتبت عن التضخم في وقت كان البعض يقلل من جدية الظاهرة، أو يدعي أنها تحت السيطرة. ولا أعرف تضخما يمكن أن يكون تحت السيطرة دون اتخاذ إجراءات اقتصادية محددة لكبحه.
إن من سنن الحياة الاقتصادية تقلب مستوى النشاط الاقتصادي بين انكماش ورواج، وكساد وتضخم. ومن مهام السلطات الاقتصادية تبني الخطط والسياسات الاقتصادية المناسبة التي تحافظ على معدل نمو الدخل القومي وبرامج التنمية، لكن بأقل قدر ممكن من الخسائر والتضحيات الاقتصادية والاجتماعية المصاحبة لها. فبرامج التنمية التي تفشل في توليد فرص عمل كافية تعمل على تقليص معدلات البطالة المؤذية، وخطط الإنفاق الطموحة التي تكون سببا في ارتفاع الأسعار بمعدلات عالية تؤول إلى تدهور المستوى العام لمعيشة عامة الناس، أو تؤول إلى تدهور مستوى الأمن وارتفاع معدلات الجريمة، لا يمكن أن تكون برامج رشيدة ولا سديدة! وقد دلت التجارب على أن كل أزمة اقتصادية تمهد لأزمات اجتماعية.
قبل أيام دعا وزير العمل الدكتور غازي القصيبي رجال الأعمال في القطاع الخاص للنظر في زيادة أجور العمال السعوديين، ولم أفهم لماذا السعوديون فقط؟ كما لم أفهم لماذا لم يدع لزيادة رواتب العاملين على بند الأجور في القطاع العام؟
قلت في مقال سابق (بعنوان اهربوا من النقود) إن مسلسل ارتفاع الأسعار لم ينته وإن للغلاء بقية خلال العام الجديد. وقد تضافرت الآن التقارير الاقتصادية من كل حدب وصوب التي تؤكد ما ذهبت إليه. وهذا يعني أن الفجوة بين تكاليف المعيشة ومستوى الأجور في القطاعين العام والخاص ستزداد اتساعا. وسيفرض ذلك عاجلا أم آجلا تعديلا حتميا في الرواتب والأجور. يمشي الضعيف وكل شيء ضده! لا توعوا فيوعى عليكم، الأسعار لن تنخفض، وتعديل الأجور والرواتب أضحى أمرا لا مفر منه.
كما إنني أكاد أرى، بالنظر إلى تطور وتضافر الحقائق والوقائع الاقتصادية، أن ما كنت أدعو إليه مبكرا منذ نحو أكثر من سنة، من ضرورة إعادة النظر في سعر صرف الريال مقابل الدولار ستدفعنا إليه الظروف دفعا. وقد اعترف أخيرا تقرير صادر عن أحد أكبر بنوكنا المحلية بحتمية ذلك، صح النوم ! تحيرت في فهم سر تأخرنا وترددنا في تبني السياسات الاقتصادية الصحيحة في الوقت الصحيح!