هل زيارة الرئيس بوش في الوقت الضائع؟!

يبدو أن زيارات الرئيس بوش إلى بعض دول المنطقة لم تكن تحمل حلا منطقيا مقبولا للمشكلات المشتعلة، بقدر ما كان الهدف هو تحسين الصورة الشخصية للرئيس نفسه قبل مغادرته البيت الأبيض، تأسيا بالمعنى المفهوم للمثل العربي (إذا كنت رايح لا تسوّي فضائح)، بيد أن الفضائح سبقت هذه الزيارة منذ اعتلائه كرسي الرئاسة، واعتماده مبدأ تطويع العالم، وقهره كمنهج للسياسة الأمريكية، الأمر الذي جعل هذا الرئيس أسوأ الرؤساء الأمريكان حظا، عندما يخرج من البيت الأبيض غير مأسوف عليه، فقد أراد تسيّد العالم والسيطرة عليه منذ قدومه، في ظل غياب قوة تنازعه هذه السيطرة، فكان كمن أشعل فتيلا في غابة، فاشتعلت النيران أكثر مما كان يقدر، حتى كادت تصل إلى بيته، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن هذه السياسة أضاعت ما كان لهذا البيت من هيبة، واحترام وتقدير، إلى أن وصل الأمر بالكل إلى استبطاء مغادرة الساكن بغض النظر عمّن يحل محله، فهم على قناعة أنه لن يكون أكثر إزعاجا من سلفه!..
نعم، إن إقامة الرئيس في البيت الكبير تبدو في نظر العالم، وكأنها طالت أكثر من المدة المقررة، ولأن سنوات الفرح والسعادة تمر بسرعة، فإن عكسها سنوات البؤس والشقاء والكوارث، تعد السنة منها بسنتين، وكأني بالساكن نفسه يستعجل الرحيل، لشدة ما عاناه من نظرات التبرم المحيطة به، والدليل أنه سيخصص ما تبقّى له من مدة للمرور على الجيران والمعارف وتوديعهم، لعل ذلك يزيل شيئا مما علق في النفوس!..
الصورة الماثلة الآن عن هذا الزعيم في العالم أنه أتى طامعا، وأراد أن يحصل على كل شيء، فلم يفز بشيء!..، أراد أن يحقق ما لم يحققه أبوه، فأضاع مكاسب أبيه، وجعل الناس يتمثلون بالمثل العربي القائل: (الله يحلّل الحجاج عند ولده)، لأن ذلك الأب كان يدرك معنى المثل العربي الآخر (من كبّر اللقمة غصّ)، فاكتفى بطرد المعتدي (صدام من الكويت) إلى باب بيته، وتركه وعاد، رغم أنه كان بإمكانه ملاحقته في زوايا ذلك البيت، لولا أنه كان يدرك أن ذلك البيت كان مسكونا بجنّ من نوع يختلف عن الجنّ المألوف، لأنهم عندما يتلبسون الشخص فإنه يبقى متخبطا طيلة حياته، لا يعرف كيف يسير، ولا أين يسير!..
ـ أراد أن يكون أشجع من أبيه، ويأتي بما لم تستطعه الأوائل، فاخترع قصة (أسلحة الدمار الشامل) لتبرير احتلال بلد ذي شأن في العالم، وعضو في الأمم المتحدة، وذلك لكي يصطاد عصفورين بحجر، لكي يزيل عن إسرائيل خطر قوة العراق، ولكي يضمن له موضع قدم على فوهات حقول النفط لينهل منها ما يشاء، فلم يفلح في الأولى لأن العراق إن عتقت من نير الاحتلال فستكون أشد خطرا على إسرائيل، لأنها تعلم أن احتلالها كان من أجل عيون إسرائيل، ولم يفلح في الثانية، لأنه صرف على جنوده في العراق أضعاف ما كان يطمع في الحصول عليه من نفط العراق!..
ـ غزا أفغانستان بحجة طرد الإرهابيين، ووعد بالقبض على زعيمهم (ابن لادن)، وعندما أحسّ بصعوبة المهمة أوكلها إلى غيره، ورصد الملايين من الدولارات كمكافأة للقبض عليه ولو ميتا، وحتى هذه لم تغرِ أحدا، وعندما أحس أن المهمة مستحيلة، وأن ورطة أفغانستان ستطول وربما تشغله عن المهمات الكبرى ذات المكاسب، في العراق وغيره، أسلمها إلى حلف الناتو، الذي ما زال جنوده يصارعون العذاب، في بلد يستطيع أهله العيش على الحشائش، وهم يطاردون أولئك الجنود في مجاهل لم يخلقوا للعيش فيها!..
ـ أما القضية المتفرعة، وهي سجناء (غوانتنامو) الذين كانت تصطادهم مثل العصافير، وتزج بهم في المكان الكئيب، لمجرد أن تشفي غليلها، دون توجيه أي جريمة أو تهمة لهم، فقد غدت قضيتهم، مع طوال السنين، تضغط على أعصاب الزعيم، وتقضّ مضجعه، بعد أن شعر بفداحة الخطأ الذي ارتكبه بلده، ولم يعد بمقدورها مناهضة من أخذوا يقلدونها في الاصطياد، فتخلّت مرغمة، عن أن تكون راعية للحريات، ولم تجد أمامها سوى فتح القفص، لتخرج منه تلك العصافير وهي لا تقوى على الطيران، من شدة ما أصابها من تعذيب وتنكيل، وهي تتوعد بأنه سيأتي يوم يقتص فيه السجين من السجان، ليضعه في ذات المكان!..
ـ في الصومال، استسهل المهمة، وتصورها بمثابة نزهة برية، لا تستغرق سوى إطلالة قصيرة، نظرا لتواضع شأن القوات المتصارعة هناك، وعندما رأى جنوده يتساقطون أمامه، استخدم تفكيره على الوجه الصحيح للمرة الأولى، وآثر إخلاء الساحة، ولسان حاله يقول، لتذهب الصومال للشيطان، فلا نفط ولا خيرات فيها تستحق الدم الأمريكي، كما في العراق، وها هو الشيطان الإثيوبي وجد الطريق ممهدا فسار، ووجد المكان خاليا فاحتله!..
ـ أما فلسطين، التي ظلت، وما زالت متكأ وسلّما لمن أراد الزعامة ليطلق الوعود بأن يكون هو من يعيدها إلى أهلها، ليضمن تمهيد الطريق إلى الكرسي الذي يريد، بمن في ذلك زعماء أمريكا، فقد حمل فخامة الرئيس هذه المرة وعدا أكيدا بحل القضية قبل مغادرة البيت، وهو يعلم في قرارة نفسه، أن ذلك الحل مستحيل ما بقي هو في السلطة، لأنه هو من دمّر الطريق إلى ذلك الحل، فلم يشهد الفلسطينيون أسوأ عهدا، ولا أكثر دمارا وتقتيلا وملاحقة وتشتيتا وتناحرا بينهم أكثر مما شهدوه في عهده، ولا أدلّ على ذلك من الانقسام المحزن في السلطة، والاقتسام المخجل في الأرض (على صغرها)، والاختلاف في السياسة، وكل ذلك بسبب سياسة الأمم الداعمة للمعتدي، حينما نادت بالديمقراطية كوسيلة وحيدة في اتجاه الحل السلمي، وعندما تحققت الديمقراطية، بمستوى متميز، من النزاهة والشفافية لم تشهده الانتخابات التي أوصلت الرئيس ذاته إلى الحكم، وبدأ أصحاب القضية يضعون أقدامهم على طريق الحل، أسقط في يد الرعاة، فقالوا للفلسطينيين قفوا، فليست هذه هي الديمقراطية التي نقصد، فكان الانقلاب!..، ويريد الآن سيادة الرئيس بجرة قلم أن يتجاوب معه الكل، ويقبلوا بحله الذي أتى فازعا به، وهو يفتقر إلى الحكمة والعقلانية، حينما تجاهل أصحاب القضية الأصليين المشردين في عدد من البلدان، الذين هم أحق ممن بقي، وعلى فرض قبولهم بالتعويض، وهم لن يقبلوه طبعا، فالأوطان لا تباع بالمال!..
أخيرا، وليس آخرا، كشفت استطلاعات الرأي، لدى أصحاب القضية وغيرهم، من قبل وسائل الإعلام، حول ما إذا كانت الزيارة تحمل أملا في حل القضية، عن نتيجة غير مستغربة، مفادها أن 96 في المائة ممن شاركوا لا يرون أملا، وهذه حقيقة ليت سيادة الرئيس يدركها ليوفر على نفسه عناء المشاوير، ويوفر على بلده المزيد من النفقات!..

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي