فجوة الرواتب خطيرة وتستحق الاهتمام
رغم تباين آراء الكتاب والمهتمين حول زيادة رواتب موظفي القطاع العام من عدمها إلا أنهم متفقون على أن واقع الحال يتطلب تدخلا عاجلا لتقليل آثار الارتفاعات الكبيرة في الأسعار عن كاهل معظم الأسر، فمنهم من قال أن الأمر يتطلب زيادة الرواتب ومنهم من عارضه وطالب بتبني سلة إجراءات أخرى تكفل تحقيق هذا الغرض.
وقبل أن أتطرق لهذا الموضوع المهم لا بد أولا من الوقوف على تحليل مستويات الرواتب الحالية في سوق العمل بشكل عام، فهي تتفاوت بشكل غريب حتى أن الفجوة في أقيام الرواتب أضحت خطيرة وتحتاج لتدخل عاجل لردمها لا سيما حدها الأدنى الذي يضمن أو يكفل للموظف وعائلته حياة كريمة.
أعتقد أن متوسط الرواتب الحالية يقع في ثلاث فئات الأولى رواتب موظفي القطاع الخاص للوظائف الدنيا وهي متدنية جدا، حيث يبلغ متوسطها ما بين (2000 و3000) ريال، والثانية فئة رواتب موظفي القطاع الحكومي أو القطاع العام التي يراوح متوسطها بين (5000، و10000) والفئة الأخيرة هي لموظفي الفئات الوسطى والعليا في القطاع الخاص، وتعد الأعلى وتراوح بين (10000، و50000)، ورغم أن هذا التحليل لم يبن على مسح علمي لكنه في ظني يعبر عن الواقع المعاش للموظفين في القطاعين العام والخاص.
ويلاحظ هنا أن رواتب موظفي المستويات الإدارية الدنيا في القطاع الخاص وفئة موظفي القطاع العام هي التي تحتاج إلى مراجعة تهدف لسد الفجوة الواضحة بينهما وبين الفئة الثالثة التي أعتقد أن مستويات رواتبها جيدة، وعلى هذا فإن العمل على تعديل رواتب الفئتين هو الذي ينبغي أن يولى الاهتمام الذي يليق بأهميته.
لست مع وضع حدود عليا للرواتب وقد كتبت قبل عدة أشهر، وربما تزيد، مقالا حول هذا الموضوع بعنوان (رواتب خيالية لكنها مبررة) ذكرت فيه أن عجلة الإنتاج ومستوى وحجم الإنجاز تستحق أن يدفع مقابل تعظيمهما الكثير من المال، من هنا فإن رفع رواتب القياديين في القطاع الخاص هو أمر طبيعي ويساير أهداف منشآته، التي تحتاج إلى الفكر المتقد والخبرات المتراكمة لتعظيم أرباحها وتحقيق أهدافها، لكن عدم وضع حدود دنيا للرواتب في تلك المنشآت أمر مستغرب وينم عن خلل تخطيطي له انعكاساته السلبية على حياة الموظفين وربما يتسبب لو استمر في تضرر المجتمع على عدة مستويات.
لا أستطيع أن أتفهم أن يدفع لموظف بريد أو مأمور سنترال أو عامل مصنع مبلغا لا يكفي لمواجهة مصاريفه الشخصية فكيف بمصاريف عائلته، ولا أعلم أن حرية السوق والعرض والطلب لها علاقة بتحديد وضبط أمر له جانب إنساني عدا كونه يمثل استغلالا مهينا لليد العاملة الوطنية.
الجميع يعرف اليوم أن تكلفة المعيشة ارتفعت لأسباب كثيرة لسنا في واردها الآن وهذا يتطلب عملا جادا من أجل المحافظة على القوة الشرائية لرواتب أصحاب الدخول الثابتة على القوة الشرائية لرواتبهم لأسباب اجتماعية وأمنية واقتصادية، فرفع الرواتب بنسبة موحدة لن يخدم أصحاب الرواتب المتدنية أو المتوسطة بل يخدم أصحاب الرواتب الكبيرة، من هنا فإن التدرج المدروس في نسب الزيادة أمر مهم لسد الفجوة المتزايدة في رواتب العاملين بشكل عام على اختلاف جهاتهم ووظائفهم.
لا يمكن بطبيعة الحال القبول بأن تكون رواتب بعض موظفي القطاع الخاص متدنية لدرجة لا تكفي لمواجهة مصاريف أسرهم لشهر كامل فهذا يسهم في ظهور تبعات غير مرغوبة كما لا ينبغي أن يجد موظفو القطاع الحكومي أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه، لاسيما أنهم يمثلون الطبقة المتوسطة المتعلمة في المجتمع.
قبل عقود كان طالبو العمل لا يرغبون العمل في القطاع الخاص لأسباب متعددة كان أهمها أن متوسط الرواتب في منشآته متدن قياسا برواتب القطاع الحكومي، وأنا أتحدث هنا عن أولئك الذين يحملون شهادات جامعية، أما اليوم فإن القطاع الخاص الذي يتصف بالمرونة يدفع أضعاف ما يتقاضاه الموظف في القطاع الحكومي وهو ما تسبب في فجوة مالية بين العاملين في القطاعين لا يستحسن أن تستمر طويلا، وأنا أتحدث عن فرق الراتب لموظفين اثنين يحملان الشهادات نفسها أحدهما يعمل في القطاع الخاص والآخر في القطاع الحكومي.
أمر آخر له علاقة بالموضوع وهو رواتب القياديين الإداريين في الأجهزة الحكومية وأعضاء هيئة التدريس في الجامعات والأطباء في المستشفيات الحكومية التي تعد متواضعة جدا قياسا بما يدفع لأمثالهم في القطاع الخاص، وهو ما يؤثر على مستوى إنتاجيتهم وإخلاصهم في العمل.
أعرف أن وزارة المالية تجيد حساب أية فروقات مقترحة للرواتب ويشغلها أمر القدرة على دفعها في السنوات المقبلة خصوصا أننا دولة تعتمد على النفط في إيراداتها وهو مادة متقلبة الأسعار، لكن سلبيات الفجوة أخطر من سلبيات أعبائها المستقبلية، خصوصا أننا نمتلك اليوم احتياطيات نقدية ضخمة يمكن أن تعود على خزانة الدولة بعوائد كبيرة إذا ما وظفت في قنوات استثمارية غير تقليدية.