الغلاء والسكن .. شاطر ومشطور

عرض الغلاء أو التضخم، كما يطلق عليه المتخصصون الذي أصاب كل السلع والخدمات وبلا استثناء، قدرة ومستوى معيشة المواطن للتدني، ومن ضمنها، وهي موضوعنا اليوم، ضربه في مقتل خطط وآمال غالبية المواطنين الذين كانوا يأملون تحقيق مشروع العمر وهو السكن، فمع عدم فاعلية أو بالأصح عدم توافر مصادر تمويل معقولة ومقدور عليها أو كافية، جاء الغلاء الفادح الذي شمل كل متطلبات البناء من حديد وأسمنت وطوب وأدوات كهرباء وسباكة وغيرها من مكونات البناء ليقضي تماما على تطلع المواطن غير المالك لسكن لبناء منزل يؤويه وأبناءه ويعفيه من الإيجار المستنزف دخله دون مردود دائم أو توسيع وتطوير لسكنه الحالي، وبشكل أعم ضاعف وصعب من الأمل في حل مشكلة الإسكان التي أطلت برأسها منذ أكثر من عقدين من الزمن تقريبا بحيث باتت من مشكلاتنا المؤثرة والمحرجة بما جعلها مدار نقاش واسع خلال السنوات الماضية وحتى اليوم، ومع أنه ظهرت محاولات شحيحة للمساهمة في حل هذه المشكلة، كمحاولة مؤسسة التقاعد المسماة "مساكن"، إلا أنها جاءت مبتورة وغير فاعلة لكونها قدمت بشروط تعجيزية، خصوصا بعمولاتها المبالغ فيها، مما جعلها فاشلة وغير عملية، أما قروض صندوق التنمية العقاري، فإضافة إلى مدة الانتظار الطويلة لم تعد قيمة القرض وهي 300 ألف ريال تكفي حتى لإنجاز جزء من البناء، وإذا كان تأثير الغلاء في المواد الغذائية مثلا يمكن للمواطن مواجهته بقدر أو بآخر، إلا أن هذه الارتفاعات الفلكية في أسعار البناء لا يمكن للمواطن محدود الدخل والإمكانيات حلها لأن لا بديل أمامه وهو ما يجعل هذا الغلاء الفادح في تكلفة البناء له عواقب كبرى أقلها تفاقم مشكلة الإسكان ومضاعفة أعداد المواطنين غير القادرين على تأمين سكن لهم ولأسرهم والذي هو، أي السكن، من الأولويات التي يجب أن توفر إمكانيته لغالبية المواطنين.
ما نراه اليوم كأثر سلبي لهذه الارتفاعات المحمومة والمتلاحقة في أسعار مواد البناء وتكلفته هو تباطؤ إن لم يكن شبه توقف لعمليات البناء، وأنا هنا أتحدث عن المواطن العادي وليس القادر أو الشركات، فلم يعد غريبا أن نجد كثيرا من المباني التي توقف البناء فيها لعدم قدرة أصحابها على إتمامها بسبب عجزهم عن ملاحقة ارتفاع الأسعار، والبعض الآخر يضطر تحت الحاجة الملحة إلى السكن أن يتمم البناء بمواصفات متدنية بحثا عن الرخص والهروب من ارتفاع التكلفة، ولهذا نتائج سلبية حين يؤدي ذلك إلى بناء ضعيف وغير متطابق مع أقل المواصفات، وهو ما سيجعله يعاني دائما الحاجة إلى صيانة مستمرة، أي أن هذا الغلاء يدفع بالكثيرين لإتمام البناء حسب القدرة وليس المطلوب إنشائيا.
صحيح أن الغلاء في قطاع الإسكان ليس وليد اليوم، ولكن جاء تضاعفه ليزيد من طينة مشكلة السكن بلالا أكثر، فإذا كان الغلاء في السابق ولد المشكلة، فإن تزايده حاليا فاقمها وصعبها بأشد مما كانت عليه، وليس علينا أن نعفي أنفسنا من المسؤولية ونرميها على الغلاء ونطالب الناس بانتظار انفراجه، والذي لا يتقهقر حتى ولو زالت الأسباب، فالسكن ضرورة وحاجة أساسية لا بد من إيجاد مخرج لها، خصوصا في بلد مثل بلدنا فيه نسبة كبيرة من سكانه لا يملكون مساكن وتتوافر فيه قدرات اقتصادية، وفي ظل دولة تهتم بشؤون مواطنيها، والحلول موجودة ولكنها تحتاج إلى مبادرة مدروسة وفاعلة من الممكن تحقيقها، فالدولة ـ وفقها الله ـ عملت الكثير في هذا المضمار كتقديمها منح أراض وقروضا مالية عبر صندوق التنمية العقاري، إلا أنها لم تعد كافية وناجعة لحل مشكلة الإسكان بوضعها الحالي، فالمطلوب حلول تتوافق مع الوضع الراهن، ومنها مثلا إيجاد آلية دعم من الدولة لمواد البناء الأساسية تخدم المواطن الذي يريد بناء سكن له كأن يوقف التصدير ويزاد الاستيراد مع إلغاء الجمارك عليها، أما الحل الأجدى فهو في وضع سياسة إسكان تقوم على مصدر تمويل مدعوم من الدولة، وهو موجود ولكنه غير مقنن وموظف التوظيف الجيد، وهذا يأتي من خلال قيام الهيئة العامة للإسكان بالاتفاق مع عدد من شركات التعمير والإنشاء على تنفيذ بناء مساكن للمواطنين بمواصفات وأحجام مناسبة على الأرض الممنوحة للمواطن من قبل الدولة ويدفع قيمة قرض صندوق التنمية العقاري للشركة المنفذة مباشرة على أن يتم رفع قيمته حسب أمتار البناء المطلوبة بما لا يتجاوز نسبة محددة، ويكون القرض مصدر تمويل دون فوائد تستقطع من راتب الموظف العام والخاص أو من تقاعده على مدى سنوات كافية وغير مؤثرة في دخل المواطن، وهو ما يتماشى مع أول أهداف هذه الهيئة، كما حددها قرار مجلس الوزراء بأنها "تهدف الهيئة العامة للإسكان إلى توفير السكن المناسب وفق الخيارات الملائمة لاحتياجات المواطن وفق برامج تضعها الهيئة وبخاصة عدة أمور، من بينها تيسير حصول المواطن على سكن ميسر تراعى فيه الجودة ضمن حدود دخله في الوقت المناسب من حياته وزيادة تملك المساكن".
مشكلة السكن يا سادة ليست من المشكلات التي يمكن تركها للزمن ليحلها، بل مشكلة لها أبعاد اجتماعية واقتصادية وأمنية ونفسية تتطلب تدخلا حاسما وفاعلا وعاجلا، لأن تراكمها له عواقب معروفة، فالمواطن الذي ظل لعقود يجمع ويوفر وينتظر القرض، جاء هذا الغلاء ليضعه بين شاطر ومشطور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي