"تداول" والمصلحة في التريُّث
بالرغم من مرور نحو أربع أعوام على صدور "نظام السوق المالية" في المملكة، لا تزال قضية الإفصاح تشكل الهاجس الأكبر ومصدر قلق للكثير من المستثمرين والمتعاملين في السوق بشكل عام إذ إن البيانات المتاحة لا تفي بالحد الأدنى من المعايير الدارجة في الأسواق الأكثر انضباطاً ما يؤثر سلباً في أحد أهم أهداف النظام ألا وهو توفير العدالة في التعامل وحماية المتداولين بالأوراق المالية. ولما يشكله غياب الإفصاح من أضرار جسيمة على السوق فقد سبق وأن تطرقت له في مقالين في "الاقتصادية" في (12/9/1425هـ، 2/2/1428هـ) أشرت فيهما إلى المعاناة التي يلاقيها المرء عند البحث عن معلومات ومؤشرات ذات مصداقية يمكن الارتكاز عليها في صناعة قرارات استثمارية سليمة. كما بينت بعضاً من الإيجابيات التي يمكن أن يجنيها الاقتصاد الوطني من توفير بيئة شفافة في السوق تُشاهد من خلالها جميع حركاتها وسكناتها.
هناك حدود دنيا للإفصاح في الأسواق العالمية متاحة للجمهور، وليس فقط لجهات الرقابة، من بينها الإفصاح عن أسماء المساهمين الذي يملكون نسبة 5 في المائة أو أكثر من الأسهم، أسماء المؤسسات والصناديق العامة التي تمتلك حصصاً مهما كانت قيمتها، وأسماء الذين لديهم صلاحية الاطلاع على معلومات داخلية في الشركة وقاموا بعمليات بيع أو شراء أسهم والتواريخ التي تمت فيها تلك الصفقات والتواريخ التي تم فيها إشعار هيئة السوق بها.
كذلك، لا بد من الإفصاح الكامل عن الحصص التي يملكها أعضاء مجالس الإدارة في الشركات لكل منهم بعينه، المكافآت والمميزات التي يحصلون عليها، الرواتب والبدلات التي تدفعها كل شركة لرئيسها وكبار التنفيذيين الآخرين، وتداولاتهم وأقاربهم. كما أن متطلبات الإفصاح تقضي بإحاطة السوق بأية قرارات أو عقوبات تصدر من هيئة السوق المالية وتؤثر في نشاط الشركة، وينبغي كذلك إطلاع السوق وبشكل فوري على أي طلبات تكون الشركة قد تقدمت بها للهيئة. ثم هناك الإفصاح عن الجوانب التجارية لنشاط الشركة مثل حصتها في السوق، برامجها للربع المقبل، أسماء منافسيها وحصصهم في السوق .. إلى آخره.
اليوم أعود مرة أخرى لتناول قضية الإفصاح في السوق بمناسبة تعيين أول مجلس إدارة لشركة السوق المالية السعودية "تداول". إذ إن هناك شعور بالحيرة لدى بعض مراقبي السوق من تركيبة ذلك المجلس على الرغم من أنها جاءت موافقة لأحكام الفقرة (ب) من المادة الثانية والعشرين من نظام السوق. تلك الحيرة ربما مبعثها مخاوف من الصلاحيات المطلقة التي منحها النظام لمجلس إدارة السوق وما قد تشكله من مدخل لإساءة استخدام السلطة إن لم توضع ضوابط صارمة لحماية الجمهور. ذلك أن صلاحيات مجلس الإدارة، كما وردت في المادة الثانية والعشرين من النظام، تمتد إلى جميع مفاصل السوق كشروط إدراج وتداول الأوراق المالية، رؤوس أموال شركات الوساطة والضمانات المالية المطلوبة منها، تسوية المنازعات بين أعضاء السوق، متطلبات عضوية السوق، وغيرها. بمعنى آخر أن مجلس إدارة السوق الذي يضم في عضويته شركات وساطة وشركات مساهمة مدرجة في السوق يتمتع باطلاع غير مقيد على معلومات ليست متاحة للعموم أو حتى للمنافسين الآخرين من شركات الوساطة والشركات المساهمة.
بالطبع هناك معايير للسلوك المهني يقضي النظام بتطبيقها على أعضاء مجلس إدارة السوق، مديرها التنفيذي وبقية موظفيها. وقد أسند النظام إلى مجلس الإدارة وضع تلك المعايير بما في ذلك الإجراءات والعقوبات التأديبية بحق المخالفين، على أن يتم إقرارها من قبل مجلس هيئة السوق المالية. وإذ نتطلع لصدور معايير السلوك المهني فإننا نأمل أن تشمل تلك المعايير إلزام كل عضو في مجلس إدارة السوق بالإفصاح عن علاقاته المالية والمهنية مع الشركات المدرجة وغير المدرجة في السوق وكذا الأدوات والأوراق المالية بأنواعها التي يملكها أو التي تحت تصرفه.
لكن إعداد معايير السلوك المهني وإقرارها قد يتطلب بعض الوقت ما يدعو إلى التساؤل عن الضوابط التي ستحكم في تلك الأثناء تحركات أعضاء مجلس إدارة السوق. وقد ترى هيئة السوق المالية في هذه المرحلة التأسيسية من المصلحة التريث في إطلاق يد مجلس إدارة شركة "تداول" في ممارسة صلاحياته إلى حين استكمال تلك المعايير.
دعونا نجنح إلى جانب الحيطة كي ندرأ عن السوق ما قد يكون هناك من ثغرات ربما تنقص من مصداقيتها.