قرار تسريح الجيش العراقي بين المبررات والاعتراضات والنتائج

يواجه الجيش العراقي أعتى التحديات، متمثلة في التحالفات الإثنية والعرقية والاختلافات بين طوائف الشعب، والتي أيقظها الاحتلال عبر سلسلة التفجيرات المتبادلة في مواقع شيعية وسنية. وقد هرع الكثير من المحللين لإجراء المقارنات مع حالة الجيش اللبناني قبل سنة 1975 (تاريخ الحرب الأهلية اللبنانية). ففي المراحل الأولى للحرب الأهلية اللبنانية، انضم الجنود إلى ميليشيات الطوائف التي ينتمون إليها. وكانت النتيجة وجود قوة في مكان غير صحيح. وبالنسبة للجيش العراقي أصبحت مهمة بناء جيش تسمو فيه الروح الوطنية على المشاعر الطائفية تحديا صعبا كما كان الحال لدى بدء هذا الجيش في مطلع العشرينيات.
لقد ملأت الميليشيات الشيعية والكردية مواقع الوحدات العسكرية، خاصة في القواعد الجنوبية والشمالية. وتقول مصادر الحزب الديمقراطي الكردستاني إن البشمارجا أصبحت جيشا نظاميا منضبطا تحت اسم جيش كردستان ولم يعد من الممكن تسميتها بالميليشيا. وتقوم حكومة كردستان الإقليمية بإدارة كلياتها الحربية، حيث توجد واحدة في السليمانية وأخرى في زاغو ويديرها الحزبان الرئيسيان في كردستان. ولم تبد حكومة كردستان الإقليمية أية رغبة في تشكيل وحدات عسكرية متعددة الطوائف والأعراق في المناطق التي تسيطر عليها. وقد اعترض عقيد كردي في الجيش العراقي على قرار حكومة العراق المركزية لإذابة الأكراد في لوائه. وقال "لقد أرسلت لي وزارة الدفاع أخيرا 150 جنديا عربيا من الجنوب، وبعد أسبوعين من الخدمة قمنا بإبعادهم، ولم نقبلهم، ولن نسمح لهم بإرسال المزيد من الجنود العرب إلينا". وقد عبر أحد المسؤولين في حزب طالباني عن نفس الاتجاه بقوله:
"لن نسمح بإرسال جندي عربي إلى كردستان، ولا إرسال جندي كردي إلى المناطق العربية. فالجنود من منطقة الرمادي عليهم مراقبة الحدود مع المملكة العربية السعودية، كما أن الشمال شديد البرودة بالنسبة للجنود العرب. وقد أثرت هذه المواقف والطوائف في مسيرة الجيش منذ العهد البريطاني وأثناء الاحتلال الأمريكي الحالي. وأصبح من الأمور المعتادة التي لم يتحرك الأمريكيون ضدها أن يرفض الجنود الأكراد الخدمة خارج كردستان، كما يرفض القادة الأكراد قبول عرب في مناطق كردستان.
ويشترك البريطانيون في الماضي مع الأمريكيين في الحاضر في كثرة أعداد الهاربين من الخدمة العسكرية أثناء مراحل التدريب. فبعد أن تم تسجيل 900 جندي للتدريب في الكتيبة الأولى من الجيش الجديد فرّ 480 منهم بسبب ضعف المرتبات وظروف الخدمة والشعور بالمهانة. وقد وقعت الأزمة نفسها عندما بدأ البريطانيون تدريب العراقيين أثناء مرحلة الحماية. ولكن الظروف الاقتصادية كانت أكثر قسوة، فاضطر الكثيرون إلى البقاء لأسباب مالية وليس لأسباب تتعلق بالولاء. وفي العشرينيات كانت القوات العراقية ساخطة على ظروف عملها وحاول بعضهم الفرار للانضمام إلى الجيش التركي الذي كان يجري تشكيله حديثا عندما تأسست الجمهورية التركية. وفي عراق ما بعد البعث، فرّ الجنود بعدما وصلتهم الأوامر بالخدمة في مناطق بعيدة عن بيوتهم أو في مناطق تتسم بالخطورة، حيث تشتد وطأة المقاومة مثل منطقة المثلث السني الذي يلتهب بالمقاومة. وأثناء استعراض للتخرج في قاعدة الحبانية غرب بغداد، احتج ألف جندي عراقي وقام بعضهم بخلع القمصان والإلقاء بها، وهددوا بعدم تنفيذ الخدمة العسكرية بعدما أبلغوا بأنهم سيخدمون خارج قراهم ومدنهم. وقد تبيّن رفض الجنود العراقيين أن يتناسوا الانتماءات العرقية والطائفية، كما رفضوا الالتزام بأوامر وتعليمات حكومتهم المركزية. وفي حالات كثيرة يرفضون القتال ضد الميليشيات العرقية والطائفية، حيث إن أفراد هذه الميليشيات قد يمتون بصلة القرابة والجيرة والصداقة للجنود، وقد يكونون أقارب ومن عائلة واحدة. وأثناء القتال في الفالوجة سنة 2004 أرسلت القيادة الأمريكية وحدة قتالية يتكون معظم أفرادها من السنة لقمع الانتفاضة التي قادها العرب السنة وأصيب الأمريكيون بالإحباط الشديد عندما تفرّق أفراد هذه الوحدة بمجرد وصولهم إلى الفالوجة وحاربوا إلى جانب الثوار.
وتلك الظاهرة لم تكن جديدة على العراق، حيث واجهت الحكومة البريطانية والحكومة العراقية المشكلة نفسها في الثلاثينيات، ففي تقرير صدر عن بريطانيا سنة 1935 ورد وصف لحدث مماثل: "إن كثيرا من الضباط يبدون تعاطفا مع خصوم الحكومة، ونظرا لأن معظم الأفراد – ضباطا وجنودا – من الشيعة فقد رفض عدد من الضباط التقدم إلى ساحة المعركة". وكانت عملية التجنيد قد نشطت في القرى ومناطق القبائل، وعندما تم توجيه المجندين للقتال، ظهر أن ولاءهم لقبائلهم كان أقوى من ولائهم لجيش أرغموا على الخدمة فيه.
وإذا توقفنا أمام الوضع الراهن، فإن نوعية ومستوى وقدرة الجيش العراقي الحالي، وبعد أن قامت أمريكا بتأسيسه لا تبشر بالخير، فهو غير قادر على حماية العراق في حالة انسحاب الجيش الأمريكي، وهذه الحقيقة هي جوهر المشكلة العراقية، فالذين يطالبون الأمريكيين بالجلاء يدركون أنهم في مأزق، والحكومة العراقية في محنة، حيث إن البدائل المتاحة صعبة. ويرى البعض أن الولايات المتحدة تدرك أن وجود جيش ضعيف هو مبرر بقائها. ومظاهر الضعف تتمثل في كثرة أعداد الفارين وارتفاع معدل الخسائر إزاء المقاومة والعجز عن احتواء المقاومة والضعف في العمليات القتالية. ويسخر الأمريكيون من عبارة "إن شاء الله" التي يقولها الجنود العراقيون عندما يطلب منهم القتال. وربما كانت هذه طريقة ليخرج العراقيون من حرج قتل العراقيين. وإنصافا للعراقيين نسجل أن التدريب الأمريكي لا يتجاوز إعدادهم للدور القمعي ومقاومة المقاومة ضد الاحتلال، بينما تعود الجيش العراقي القديم على حروب مطولة على جبهات كبيرة ضد الإيرانيين، ولم يوضع العسكريون العراقيون في موقف حرب المدن من قبل، وهو موقف فشل الأمريكيون فيه ويريدون بديلا يتحمل خسائره.
وفي آب (أغسطس) سنة 2006 لخص محمود المشهداني رئيس البرلمان العراقي الموقف بقوله "إن أية جماعة مسلحة بوسعها أن تنزل الهزيمة بالجيش العراقي، لأنها (أي الجماعة) تمتلك الصواريخ المتطورة والأسلحة الحديثة". وهذا التقييم يذكر المهتمين بتاريخ الجيش العراقي بسابقة المندوب السامي البريطاني في العراق هنري دوبز الذي أعرب عن تخوفه من أن الجيش العراقي وقتئذ لم يكن مؤهلا لإحراز النصر إذا دخل في اشتباك مع ميليشيات القبائل. وأنحى المشهداني باللوم على الولايات المتحدة التي لم تقدم للجيش العراقي الأسلحة المناسبة كما وكيفا وذلك تخوفا من انقلاب هذا الجيش عليهم أو أن يصعب عليهم السيطرة عليه. فهم يعيشون – على حد قوله – في هاجس المؤامرة. وهو الفكر البريطاني نفسه الذي كان يجهز جيشا بريطانيا يصلح لحماية طريق الهند وآبار النفط لصالح بريطانيا دون أن تتاح له مقومات القوة التي تجعل منه خطرا على بريطانيا. وقد ظهر ذلك جليا في سلاح الطيران، حيث لم تزود بريطانيا الطيران العراقي بطائرات قد ترجح كفته على الطيران البريطاني المتمركز في العراق.
وفي السادس من أيلول (سبتمبر) 2006 سلمت الولايات المتحدة ناصية الأمور في الجيش العراقي لحكومة نوري المالكي رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة العراقية. ويقود المالكي الآن البحرية والطيران والجيش الثامن، وهللت واشنطن للقرار وأعلنت أن العراق أصبح مؤهلا للدفاع عن نفسه، ولكن سرعان ما أعلن العراقيون أنفسهم أنهم لم يصلوا إلى هذا المستوى، وتسرب تقرير للأمريكيين يفيد بأن المالكي زرع عناصر شيعية للهيمنة على الجيش وحوله إلى جيش طائفي يعزل قيادات متميزة ولكنها من السنة أو الأكراد. ورد المالكي على هذه الاتهامات في حزيران (يونيو) 2007 بقوله:
"أقول لكم بكل صراحة إن أساس النصر هو جيش يتكون من جنود وضباط وطنيين لا يعبأون بشيء إلا بالعراق، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية. ولا بد من التركيز على مبادئ المساواة والوطنية والبُعد عن الطائفية والانحياز السياسي. ويجب أن يتحرر الجيش من الطائفية ويبتعد عن السياسة".
ورغم غرق سياساته وحكومته في الطائفية، يتحدث المالكي عن أهمية التخلص منها في الجيش. ولكن جبهة التوافق السنية فندت آراء المالكي وقررت الانسحاب، لأن المالكي أدخل الطائفية إلى الجيش. وأعلنت أن 190 ألف بندقية AK47 اختفت من مخازن الجيش، إلى جانب أعداد من المسدسات، وفي الماضي كان خوف الملك فيصل أن أفراد الشعب لديهم أسلحة أكثر من الجيش. وما أحوج العراق إلى فهم ماضيه والاستفادة منه، وإقناع الأمريكيين بأن العراقيين قادرون على صنع جيشهم بعد انسحابهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي