نظافة المدن .. هل نحن شعب لا مبال إلى هذا الحد؟
لفت نظري ما نشر في الصحف المحلية أخيرا من أن أمانة مدينة الرياض خصصت 730 آلية و7400 فرد لضمان نظافة المدينة خلال أيام عيد الأضحى, كما وفرت وحدات خاصة لضمان نظافة المتنزهات البرية والأسواق التي يتوقع أن تشهد إقبالا كبيرا, وأنها ستكثف نشاطها في مواقع ذبح الأضاحي استعدادا لجمع ونقل ما ينتج من أعمال ذبح الأضاحي من مخلفات. وهذا بالطبع إضافة إلى الجهود المستمرة التي تبذل لنظافة المدينة على مدار الساعة, والتي يشاهدها ويشهد بها كل من عاش في المدينة أو زارها من مواطنين ومقيمين, وأنا كفرد من سكانها يهتم بما يجري فيها, كنت وما زلت أراقب من كثب أعمال النظافة ومستواها, وسلوك السكان ومدى وعيهم لدورهم الذي يمكن أن يكون عاملا إيجابيا في الإسهام في جعل مسؤولية النظافة مهمة مشتركة بين السكان والجهة المسؤولة عن النظافة, مثلما يجري في دول العالم المتقدمة كافة. بيد أن ما ألاحظه, وما يجري من إهمال وتسيب ولا مبالاة وانعدام للوعي بين السكان في مسألة نظافة ما حولهم, سواء كانت الشوارع التي يمشون فيها, أو الحدائق التي يتنزهون فيها, أو المتنزهات البرية التي يقضون فيها عطلهم وإجازاتهم, يجعلني أضع يدي فوق رأسي اندهاشا وتعجبا مما يجري, ومن الوضع الذي نحن فيه.
وأسأل القارئ الكريم أن يتأمل, وهو عائد إلى بيته في حدود منتصف الليل منظر عمال النظافة وهم يجوبون الشوارع, ويتسللون بين السيارات حاملين مكانسهم وأوعيتهم لالتقاط ما يقذفه الناس من سياراتهم, وما تلفظه المطاعم والبقالات من مخلفات لا حصر لها, وأطلب منه أن يسأل نفسه: أليس هو فردا من أفراد هذا المجتمع, يقع عليه جزء من المسؤولية الاجتماعية المشتركة, المتمثلة في الإسهام في نظافة مدينته, وذلك بوضع المخلفات في مواضعها المخصصة لها, وتوعية أبنائه ومن حوله بذلك؟ أو على الأقل إنكار ما يجري أمام عينيه من انتهاك لحرمة مدينته التي يعيش فيها؟!
في مرة من المرات مررت في الصباح الباكر على إحدى الحدائق الواقعة في شمال المدينة, على طريق الملك فهد, في الحي الذي يطلق عليه دوما صفة "الراقي", وكان ذلك اليوم يوم سبت, فهالني منظر الحديقة وقد غطتها وما حولها المخلفات من كل لون ونوع, وعمال النظافة بالعشرات منهمكون في جمعها ووضعها في أوعية المخلفات الموجودة في المكان ذاته, فتذكرت أن الأمس كان يوم جمعة, يكثر فيه رواد الحديقة من مواطنين وغيرهم, وكل منهم يقلد الآخر ويتعلم منه تدمير المكان.
هذا يحدث والكل منهم يعرف أنه سيأتي إلى المكان ذاته مرة أخرى, وهو يحدث رغم وجود لوحات كبيرة على مداخل الحديقة تنبه إلى ضرورة وضع المخلفات في أماكنها وأوعيتها الموجودة على امتداد يد المتنزه وهو جالس, فأوحى لي المنظر والمكان, بأننا ما زلنا بعيدين كل البعد عن أن نصل إلى الحد الأدنى من الوعي والتحضر الذي ينفي عنا صفة التخلف.
في البلدان المتقدمة لا تنظف الشوارع إلا مرة واحدة في الأسبوع, وبواسطة آليات النظافة التي يفسح لها الناس المكان, ويبعدون سياراتهم عن ممراتها كي يشملها التنظيف, أما مخلفات المنازل فيلتزم الساكنون بجمعها في أوعية محكمة ولا يخرجونها إلا في اليوم المحدد لكل حي, الذي تمر فيه الآليات لجمعها, ولو تجاوز أي ساكن هذا النظام, أو لم يبعد سيارته عن مكانها في يوم التنظيف, فإنه سيتعرض لغرامات تذهب لرفد موارد الجهة المسؤولة عن النظافة, يحدث ذلك لارتقاء وعي الناس إلى درجة الإحساس بأنهم شركاء في كل شيء, فهم يملكون المرافق والحدائق, ومعدات النظافة, لأنها تمًول عادة من الضرائب التي تجبى منهم, ويشعرون بأنهم إذا لم يتعاونوا, يتسبب ذلك في زيادة الإنفاق على النظافة, وسيكونون هم من يتحمل هذه الزيادة, أما هنا, فالكل مرتاح وغير مبال, إذ الحكومة تتكفل بكل شيء, ولا يوجد أي نوع من الضرائب يشعر الناس بشيء من الالتزام والمسؤولية!
ما العمل؟!
لن تكفي عشرات السنين لتحسن الوضع, طالما أن الملاحظ هو ارتفاع درجة الإهمال واللامبالاة, وانعدام أي شعور بالوعي لدى سكان المدن في المملكة, ما يتسبب في تزايد أعباء النظافة وتكاليفها على الأمانات سنة بعد أخرى, مع انعدام أي مبادرات من الجهات ذات الصلة بالوضع للإسهام في التثقيف والتوعية, فضلا عن الفراغ التنظيمي الذي جعل الكل خلواً من أي أحساس بالمسؤولية, فلا مناهج التعليم تلقي بالا لهذه الناحية, أو تسهم في مزج العملية التعليمية بمبادئ وقواعد التحضر, ومنها الإحساس بالمسؤولية الوطنية, مثلما فعل ويفعل اليابانيون الذي اعتبروا أن عملية تنظيف المدرسة, والعناية بفنائها ونباتاتها من مسؤولية طلابها منذ الصفوف الابتدائية, فأورثهم ذلك حب العمل والإحساس بالمواطنة,
ولا الأسرة في المنزل تقوم بأي دور في غرس هذه المسؤولية في أذهان أبنائها منذ الطفولة! ولكن أنى لها ذلك وهي تفتقده؟! ولا الجهات الحكومية المعنية تقوم بأي بادرة في هذا الجانب, وهي تعلم أن النظافة مسؤولية مشتركة, مثلما أنها مسؤولية دينية واجتماعية ووطنية, ولا سيما إذا كانت تدخل ضمن اختصاصات تلك الجهات, كما في المرافق الدينية والسياحية الرياضية والاجتماعية, والصحية والبيئية بصفة عامة. ولا حتى منشآت القطاع الخاص تقوم بأي إسهام في هذا الجانب, ولو من باب الاعتراف بفضل الوطن في توفير فرص الكسب والنجاح. ولا حتى منظمات المجتمع المدني يرى لها أي دور في مجال التوعية وبعث السلوك الحسن في هذا الجانب!.. ولو مضينا في الاستعراض لضاق المكان!
هل تفيد المقترحات؟
من باب إبراء الذمة, أقول, وأنا غير متأكد, من أنه ليس هناك من سيحمل لواء المبادرة, إن مسؤولية نظافة المدن لا تقع على الأمانات وحدها, بل هي مسؤولية وطنية يقع عبئها على الكل كما ذكرت آنفا, وأفصل هنا:
ـ فهي مسؤولية تربوية تأتي من الأسرة أولا في تعويد الطفل على النظافة في نفسه أولا ثم في المكان الذي يعيش فيه, ثم في المدينة التي يتنسم هواءها, وأن البذرة الأولى ينبغي أن تأتي من الأهل.
ـ وهي مسؤولية تعليمية إذ يجب أن تهتم المناهج بها, وتفرد لها حيزا لا يقتصر على التلقين, وإنما يمزجه بالتطبيق والممارسة.
ـ وهي مسؤولية تثقيفية وإعلامية يجب أن تقوم وسائل الإعلام بأنواعها, من حكومية وأهلية, بالتركيز بما فيها على ما يصل إلى أذهان, ويحرك الوجدان.
ـ وهي مسؤولية صحية يقع على الجهات المسؤولة عن رعاية صحة الناس دور في الارتقاء بمفهوم الصحة العامة, عن طريق الاعتناء بالنظافة سلوكا وممارسة, لما لذلك من تأثير إيجابي في عملها.
ـ وهي مسؤولية دينية ترتكز على القول المأثور (الإيمان بضع وسبعون شعبة, أدناها إماطة الأذى عن الطريق) وعلى القول الآخر (النظافة من الإيمان) وأن على الجهات الدعوية, وأئمة المساجد وخطبائها, مسؤولية كبيرة في التوعية من هذا الجانب.
ـ وهي, أخيرا, مسؤولية كل فرد عن طريق إنكار ما يجب إنكاره, مما يقع تدميرا للبيئة والمكان الذي يعيش فيه.
والله من وراء القصد,,,