قرار تسريح الجيش العراقي بين المبررات والاعتراضات والنتائج (2)

في مقابلة مع إحدى القنوات العراقية صرح حازم الشعلان وزير الدفاع العراقي الأسبق أنه "أثناء الانقلابات التي وقعت في العراق على امتداد تاريخه بقي الجيش العراقي على حالته، وكان الحارس الأمين على الأمن الداخلي والخارجي، وكان كل ما يتغير فيه هو القيادة. وأدلى عبد المحسن شلاش أمين عام حزب المجتمع العراقي الحر بتصريح مماثل لقناة "المنار" "في حال تغير الأنظمة الحاكمة في أي مكان في العالم يظل الجيش محتفظا بمكانته، لأنه لا علاقة له بالتغيرات السياسية". وعندما أصبحت هذه الأمور موضع حديث بين الساسة توصلوا إلى نتيجة مؤداها أن أي نظام جديد يقوم بتطهير الجيش من خصومه ويبقى باقي الجيش على حاله.
وقد عقد شلاش مقارنة بين الجيش التركي والجيش العراقي ووصفهما الحياد التام، وإن كان الأتراك أنفسهم يختلفون مع هذا الرأي، نظرا لتدخل الجيش بقوة لإحداث تغيرات في السياسة وفي الأفراد رغم أن الذي حملها إلى السلطة هو صندوق الانتخاب، ولكن الجيش التركي هو الذي يقوم بدور الحامي للدولة التركية، ويحاول العراقيون الآن أن يكسبوا جيشهم هيبة الجيش التركي وأن يباعدوا بينه وبين الساسة، خاصة صدام حسين، ويحاولون الاحتفال بيوم السادس من كانون الثاني (يناير) الذي تقرر فيه إنشاء الجيش العراقي 1921 والتغاضي عن بعض الممارسات السلبية التي قام بها الجيش في بعض المراحل التاريخية.
وعندما قام المحللون والخبراء بتحليل دوافع انضمام الكثير من العراقيين للتمرد ضد الاحتلال ـ رغم أن إصرار الاحتلال أن المقاومة تقوم بها القاعدة وبعض الوافدين الأجانب ـ خلص معظمهم إلى أن ذلك يحدث إذا شعر الشعب بجرح كبريائه، فالوطنية حالة من الوعي القومي يمكن أن تتسم أحيانا بالتسامح، ولكن الإهانة الجماعية تشعل نيران الغضب الوطني. وقد صرح أحد الضباط الذي انضم للمقاومة أنه فعل ذلك بسبب الشعور بالخجل والعار والإذلال في أعقاب تسريح الجيش. وهذا الشعور بالعار بعد تمكن الاحتلال من البلاد وقيامه بحل الجيش تكرر مرارا في مناسبات عديدة. وقد عبر الشعلان ـ وزير الدفاعل السابق ـ عن شعوره تجاه حل الجيش وتسريح أفراده بالقول "إنه قرار انطوى على الإهانة والتحقير والتصغير من شأن الجيش ولن نغفر أبدا هذا القرار". وفي دولة يلعب الشرف فيها دورا أساسيا كقيمة في معنويات الشعب تفوق قيمة المال الذي يقدسه المحتل، عد قرار التسريح بمثابة إهانة وسبة لشرف أقدم مؤسسة في العراق وهو بالتبعية إهانة للشعب العراقي بأسره، وانتهاك لشرف الجندي العراقي.
ورغم المخاطر الكثيرة المرتبطة بالعمل العسكري في عراق ما بعد الحرب فإن الضباط العراقيين السابقين وعددا من صغار الضباط التحقوا أخيرا بالجيش العراقي باعتباره واحدا من المؤسسات القليلة التي توفر فرص العمل.
والتحدي الآخر، الذي يواجه عملية توظيف وتجنيد جنود وضباط يتمثل في الوضع الأمني، فبعد 2003 قامت سيارات الانتحاريين الملغمة باستهداف المتقدمين لمراكز التجنيد بغية العمل في الجيش وهم ينتظرون في طوابير الانتظار لتقديم أوراقهم أو إجراء الكشف الطبي. وإذا لم يكن الجيش قد تم تسريحه فإن قدامى الجنود ما كانوا ليقفوا مرة أخرى في طوابير للالتحاق بالجيش مرة ثانية، إضافة إلى ذلك فإن الجندي الذي ينجح في الانضمام إلى الخدمة يتعرض لخطر القتل أثناء الخدمة، فقد ركزت المقاومة على المجندين عديمي الخبرة وتصيدتهم بأسلحة تفوق أسلحة الجيش العراقي.
وبعد نجاح الأمريكيين في احتلال العراق 2003 بدأت القوات المسلحة العراقية في استيعاب أفراد ينتمون إلى ميليشيات شبه عسكرية مثل جيش المهدي الشيعي ولواء بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. كذلك انضم إلى الجيش قوات من السنة مثل الجيش الإسلامي في العراق, ويمكن لأفراد من المقاومة الانضمام بسهولة إلى الجيش. واستفاد العراقيون الذين يناصبون العداء كلا من الولايات المتحدة والحكومة العراقية أن يستفيدوا من التجنيد الإجباري والاختبارات العشوائية للحصول على التدريب والسلاح. كما أن الجنود المتعاطفين مع المقاومة بوسعهم التعاون مع كتائب المقاومة وتزويدهم بمعلومات مهمة عن المواقع والقيادات والتحركات. وهناك حوادث عديدة قتل فيها ضباط كبار بسبب معلومات تم الحصول عليها من رجالهم.
وعودة إلى بدايات الجيش العراقي في مطلع العشرينيات, حيث كانت مهمة هذا الجيش تقتصر على الحفاظ على الأمن الداخلي, أما الأمن الخارجي فقد عهد به إلى الجيش البريطاني. وهذا الموقف يشبه تماما الموقف الآن عام 2007. حيث تتولى الولايات المتحدة الآن ـ كما تدعي, مسؤولية الأمن الخارجي, وتأمل أن يصل الجيش العراقي إلى مرحلة من القوة تؤهله للحفاظ على الأمن الداخلي. وليس غريبا على أحد ما تقوم به الولايات المتحدة لإذكاء الحرب المحلية ليتعود العراقيون على ضرب بعضهم بعضا, ما يرفع الكثير من العبء والجهد عن كاهل الولايات المتحدة وربما توفر عليها ما تتكبده من خسائر في الأرواح. وتعاني الولايات المتحدة كثيرا من المليشيات والمقاومة. وأثناء حقبة الاحتلال البريطاني كان العراقيون يشعرون بالضيق والقلق إزاء قيام المحتل البريطاني (منذ 1921 حتى ما بعد 1932) بإملاء التعليمات على قادة الجيش والعسكريين, وقام ضابط عراقي كبير بإجراء هذه المقارنة بين الاحتلالين البريطاني والأمريكي عندما قال في تعقيبه على غطرسة قيادة قوات الاحتلال "هل سنعود إلى عهد الحماية البريطانية عندما كان هناك نظامان للقيادة, نظام عراقي لا يفعل أكثر من توصيل واستقبال الأوامر من الإنجليز وقيادة بريطانية تتخذ كل القرارات, فالبعثة العسكرية البريطانية في العراق التي تأسست بمقتضى معاهدة عام 1922 تشبه القيادة الأمنية الانتقالية متعددة الجنسيات التي تأسست بعد سنة 2003, فكلتا المؤسستين لها سلطات لا نهائية على الجيش العراقي وفي كلتا الحالتين كانت هذه الهيمنة سواء بريطانية في الماضي أو أمريكية في الحاضر, تثير استياء الضباط والجنود الوطنيين وتدفع بأعداد كبيرة إلى صفوف المقاومة.
وبينما يحصل الجيش العراقي على أسلحته وتدريبه من الدول الأعضاء في التحالف, أي شركاء الاحتلال, فإن هناك دولا عربية تسهم في التدريب والتسليح. وهنا نقطة خلاف واشمئزاز أخرى يشعر بها العراقيون الذي يعتزون بكبريائهم العسكري وقوتهم, فإن فكرة تلقيهم التدريب والأسلحة من دول عربية أصغر منهم تضايقهم. وانتقد الضباط العراقيون القدامى فكرة إرسال ضباط عراقيين إلى الأردن للتدريب, وقد تبنت قوات الاحتلال مبدأ "درب المدرب", ولذلك فإن الأردن أصبحت بمثابة قاعدة تدريبية, وتلقى 700 ضابط عراقي التدريب في الكلية الملكية العسكرية الأردنية. ويعود هؤلاء إلى العراق لتدريب عراقيين. وقد سخر الكاتب العراقي عماد شعبان من هذا القرار في صحيفة "الاتجاه الآخر" التي يمتلكها مشعان الجبوري, وهو سياسي هرب من العراق ليؤسس القناة الفضائية "الزوراء" التي أثارت شجون الأمريكيين لعرضها صور العمليات ضد الأمريكيين (القنص والنسف) وضغطت واشنطن على مصر فأوقفت بثها من القمر المصري. قال شعبان "أستميحكم عذرا ـ هل سمع أحدكم عن خبرة الجيش الأردني أو سمع عن تاريخه في المعارك؟", المهم أن شعبان كان قد واصل هجومه على الجيش الأردني وقال إن خبرته لم تتجاوز سحق الفلسطينيين وقمع المتظاهرين وحماية الحدود مع إسرائيل. وربط شعبان بين ذلك وبين تسريح الجيش العراقي "رابع أقوى جيش في العالم", واختتم حديثه بالقول إن الهزيمة أمام المحتل لن تمحو تاريخ الجيش العراقي الباسل.
وفي آ ذار (مارس) 1921 وضمن فعاليات مؤتمر القاهرة اتفق على أن يتم إعداد الجيش العراقي على غرار الجيش البريطاني, وبذلك يحصل على تدريبه وأسلحته من المملكة المتحدة, وانتقد العراقيون ذلك كما ينتقدون الآن إصرار الولايات المتحدة على إعداد الجيش العراقي حسب منهاج الجيش الأمريكي. ففي آب (أغسطس) 2006 صرح محمود المشهداني رئيس البرلمان العراقي بأن التدريب الأمريكي لم يسهم في رفع مستوى أداء الجيش العراقي, وأنه يحطم مشروعية هذا الجيش أمام الشعب العراقي. وقال "إن التدريب يمضي على الطريقة الأمريكية والعقلية الأمريكية التي يكرهها الشعب العراقي, ولذلك فإن العراقيين ينظرون إلى هذا الجيش على أنه فرقة أمريكية لحفظ الأمن الأمريكي وحماية الأمريكيين". وأثارت تصريحاته وكشفت واحدة من أصعب وأعقد المشكلات التي واجهتها أمريكا وهي أن يعتقد الشعب أن الجيش الذي دربته وسلحته لن يتجاوز في نظرهم مجرد ميليشيا تخدم أهداف قوة الاحتلال. وكان المشهداني ينتقد ما رأى فيه جيشا يخدم الأهداف الإمبريالية للولايات المتحدة. وبعد عام 2003 وجدت الولايات المتحدة في موقف من لم يكسب الحرب, فالجيش العراقي لا يمكن أن يصمد دون تسليح وتدريب أمريكي, غير أن دعمها الجيش قد أصابه في مشروعيته أمام الشعب العراقي. والمعروف أن الكلية الحربية العراقية جرى تنظيمها على غرار سان هيرست البريطانية الشهيرة ولذلك بقي النظام الإنجليزي سائدا, وقد تمت إعادة فتح هذه الكلية بعد عام 2003 ولكنها لم تستكمل كل عناصر قوتها, ولذلك خرجت الدفعات الأخيرة ضعيفة, كما أن تدريبهم الارتجالي على يد قوات الاحتلال زاد في ضعف هذا الجيل من الضباط. وتخطط أمريكا لإكمال تدريب المتميزين في الولايات المتحدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي