مصادر الفكر القديم المتطرف للجماعات الجهادية المصرية
لا شك أن اتجاه الجماعتين الجهاديتين المصريتين في ذلك الوقت لهذه النوعية من الأفكار والتفسيرات المغالية والمتشددة للإسلام كمنت وراءه أسباب عديدة متنوعة. إلا أن العامل الرئيسي الذي ساهم في تشكيل تلك الظاهرة هو الطبيعة العامة لقراءة تلك النوعية من الجماعات لنصوص الإسلام المقدسة وتاريخه الطويل.
توضح عملية المراجعات الكبيرة التي قامت بها منذ سنوات الجماعة الإسلامية وبدأتها هذه الأيام جماعة الجهاد أن جوهرها الرئيسي ليس مجرد إعلان هاتين الجماعتين عن التوقف التام والنهائي عن العنف والإرهاب، بل القيام بعد ذلك بصياغة رؤى فكرية وشرعية جديدة ذات طابع وسطي معتدل يقوم عليها وجود الجماعتين وأعضائهما في المستقبل. وقد نجحت الجماعة الإسلامية في قطع شوط واسع نحو تلك الصياغة الجديدة عبر الكتب والمؤلفات التي زاد عددها على 25 حتى اليوم، التي احتوت ليس فقط القواعد الفكرية والرؤى التفصيلية لهذه الرؤية الجديدة في كل المجالات، بل أيضاً على مواقف وتحليلات الجماعة تجاه عديد من القضايا والظواهر العملية الراهنة على المستوى الدولي التي تتماس مع الإسلام بصورة أو بأخرى. وبالمقارنة بها، تبدو جماعة الجهاد بنشر أميرها السابق ومنظرها الدائم الدكتور سيد إمام الشريف "وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم"، في بداية وضع الأسس الرئيسية لرؤيتها الفكرية الجديدة التي لم تكتمل بعد ملامحها الكاملة، وهو ما يرجح أن تصدر أعمال فكرية أخرى عن هذه الجماعة لنفس المؤلف أو آخرين لتحقيق ذلك الاكتمال سواء في الرؤية الفكرية أو في الموقف العملي من القضايا التي تتماس مع الإسلام.
وعند مقارنة ما يحدث اليوم على الصعيد الفكري داخل الجماعتين مع ما كانتا عليه في ماضيهما الجهادي العنيف، يتضح أنهما كانتا تقومان بارتكاب مختلف صور العنف بالاستناد إلى منظومة فكرية عقدية متشددة تشكلت روافدها من مصادر فكرية مختلفة بالنسبة لكل منهما. أما المصادر المشتركة بين الجماعتين فقد ظلت قليلة وتمثلت بصفة خاصة في كتابات الأستاذ سيد قطب وبخاصة كتابه الشهير الصغير "معالم في الطريق" وتفسيره للقرآن الكريم "في ظلال القرآن"، وغيرهما من كتبه المتأخرة، إضافة إلى كتاب "الفريضة الغائبة" للمهندس محمد عبد السلام فرج. وبالنسبة للجماعة الإسلامية، فقد ظهرت أولى الكتابات التي تمثل إطارها الفكري المستقل في السجون المصرية بعد القبض على قادتها إثر اغتيال الرئيس السابق أنور السادات في السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1981. وفي مقدمة تلك الكتابات كان هناك "ميثاق العمل الإسلامي" الذي يلخص رؤية الجماعة الفكرية، حيث تطرح فيه عقيدتها وأهدافها وطريقة تحقيق هذه الأهداف، وغيرها من أركان فكرها وحركتها. وقد تعددت وثائق وكتابات الجماعة الإسلامية في تلك المرحلة وكانت كلها تتجه نحو تحديد طريق الجماعة في أن "الجهاد هو القتال أي المواجهة والدم، أما اقتصار الجهاد على الوسائل السلمية مثل الكتابة والخطابة والإعداد بتربية الأمة العلمية والفكرية أو بمزاحمة السياسيين في أحزابهم وأساليبهم السياسية، بل إن الاهتمام بالهجرة يعد من الجبن والتخاذل ولن ينتصر المسلمون إلا بقوة السلاح، وعلى المسلمين أن ينخرطوا في الجهاد مهما قل عددهم".
أما بالنسبة لجماعة الجهاد، فقد كان لديها، إضافة إلى كتابات قطب وكتاب فرج كتابات فكرية أخرى داخلية خطها بعض من قيادات المجموعات الجهادية التي تشكلت منذ نهاية ستينيات القرن العشرين، ولكن غالبيتها اختفت مع مرور الوقت وبقي أبرزها وهو كتيب "رسالة الإيمان" الذي كتبه خبير التربية الفلسطيني صالح سرية الذي قاد الجماعة التي حاولت القيام بما سمي بمحاولة انقلاب الكلية الفنية العسكرية عام 1974 التي باءت بالفشل. وفي خلال فترة السجن نفسها التي بلورت فيها الجماعة الإسلامية وثائقها الفكرية في السجون المصرية، قامت جماعة الجهاد بالأمر نفسه وفي السجون نفسها وأنتجت هي الأخرى وثائقها الفكرية التي قامت عليها حركتها العملية بعد ذلك. وقد رأت الجماعة أن "الجهاد ودعوة الناس إلى دين الله هما أهم السبل لإقامة دين الله وشرعه في الأرض، وأما العلم والتربية وغيرهما فلابد أن يكونوا خادمين للجهاد لا مثبطين عنه". وكانت الجماعة تعتقد كما تقول "بكفر الدول والأنظمة والمؤسسات التي تحكم بغير ما أنزل الله تعالى، أو تتحاكم إلى غير شريعة الله، أو تلزم الناس بالأنظمة المناقضة للإسلام أو تدعو إليها مثل العلمانية أو الديمقراطية أو الاشتراكية أو نحو ذلك". وبناء على ذلك فالجماعة كانت تسعى لتحقيق عدة أهداف من بينها الدعوة للدين الإسلامي و"العمل على خلع الطواغيت الحاكمين بغير شريعة الله، وإقامة حكم إسلامي، وإعادة الخلافة الإسلامية"، على أن يتم كل ذلك من خلال "الإعداد من خلال تكوين جماعة مسلمة معدة إعداداً شرعياً وعسكرياً كافياً".
ولا شك أن اتجاه الجماعتين الجهاديتين المصريتين في ذلك الوقت لهذه النوعية من الأفكار والتفسيرات المغالية والمتشددة للإسلام كمنت وراءه أسباب عديدة متنوعة. إلا أن العامل الرئيسي الذي ساهم في تشكيل تلك الظاهرة هو الطبيعة العامة لقراءة تلك النوعية من الجماعات لنصوص الإسلام المقدسة وتاريخه الطويل، حيث يغلب عليها الأخذ بظاهر النصوص وليس بأسباب نزولها والجنوح نحو تعميم ما يمكن استنتاجه عنوة منها دون تمحيص عقلي أو قياس تاريخي أو موضوعي. كذلك فإن الاستغراق في النصوص الإسلامية المقدسة دون الواقع الاجتماعي الداخلي أو السياسي الدولي الذي من المفترض أن تتفاعل معه تلك النصوص وتؤثر فيه بالإيجاب، حال دون استيعاب الجماعتين ونظيراتهما لحقيقة التفاعلات المحيطة بها في الواقعين الداخلي والخارجي وجعلهما أسيرتين لنصوص قامتا بتفسيرها حرفياً وبظاهرها فقط دون اللجوء لأي مناهج أخرى إسلامية الأصل في هذا التفسير والإسقاط على الواقع. وربما تكون أصول التعليم "المدني" العام لمعظم المنتمين للجماعتين وليس التعليم الديني المتخصص، على خلاف ما يتصور كثيرون، أحد أسباب عدم إلمامهم بمختلف مدارس الفكر الإسلامي وفرقه ومذاهبه بما حال بينهم وبين مقارنة ما يعتقدونه من رؤى وتفسيرات معها فيتبين لهم مواضع الخطأ والصواب.