مبادرة الملك.. نافذة أخرى

[email protected]

تعد المبادرة التي أعلنها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في افتتاح مؤتمر قمة "أوبك" الثالثة بتخصيص مبلغ 300 مليون دولار نواة لبرنامج يمول بحوثاً علمية في الطاقة، البيئة, والتغير المناخي، رسالة واضحة للأسرة الدولية عن عزم المملكة التعامل مع تلك القضايا من خلال عمل منهجي جاد يضع أمام الجميع من منتجين ومستهلكين الخيارات المتاحة وتكلفة كل منها. وقد جاءت تلك المبادرة في توقيت جيد بلا شك, إذ أصبح العالم في حاجة ماسة إلى رسم خارطة طريق للطاقة تأخذ في الحسبان مصالح الأطراف المعنية مع توفير مستويات معقولة من النمو الاقتصادي في سائر أنحاء المعمورة دون تفريط في البيئة أو على أضعف الإيمان دون زيادة تدهورها نتيجة للفساد الذي ظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس.
لكن من الملائم هنا التنبيه إلى أن أمامنا وقتا طويلا قبل إحراز تقدم ملموس في القضايا التي يشملها برنامج البحوث الذي أعلنه خادم الحرمين الشريفين, ذلك أن تلك القضايا معقدة تقنياً ومتشابكة اقتصادياً واجتماعياً. والشاهد على ذلك أن الكثير من مراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية تخلت, في سعيها لمعالجة قضايا الطاقة, عن الأساليب المألوفة للبحث العلمي التي تعتمد إلى حد كبير على جهد فرد واحد أو مجموعة محدودة من الأفراد واختارت بديلاً عن ذلك تأسيس برامج ومراكز مستقلة لدراسات الطاقة ينضوي تحت لوائها عدد كبير من العلماء والباحثين في مجالات متعددة من العلوم والمعرفة. إذ إن توحيد الجهود البحثية تحت مظلة واحدة له مزايا عدة منها تسريع الخطى, تجنب الازدواجية, والإفادة من تنوع الأدوات التقنية التي تتميز بها مختبرات تلك الجامعات. ومن أشهر الأمثلة في ذلك السياق البرنامج الذي أطلقته جامعة MIT قبل نحو عامين تحت اسم "مبادرة الطاقة", ومركز الأبحاث الذي شرعت في تأسيسه هذا العام جامعة بيركلي في كاليفورنيا بعد حصولها مع جامعة أخرى على منحة قدرها 500 مليون دولار من شركة البترول المعروفة (BP). وتهدف المنحة التي ستُقسّط على عشر سنوات إلى "تطوير مصادر جديدة للطاقة وتقليل آثار استهلاك الطاقة على البيئة".
إن اختيار شركات البترول متعددة الجنسيات كشركة (BP), شركة إكسون موبيل التي تبنت من قبل برنامجاً مشابهاً في جامعة ستانفورد وغيرهما, مراكز الأبحاث في الجامعات الأمريكية الراقية كشركاء استراتيجيين في دراسات الطاقة والبيئة له دلالات يمكن الإفادة منها في تفعيل مبادرة خادم الحرمين الشريفين. إذ إن تلك الشركات العملاقة ليست لها مصالح كبيرة في صناعة البترول ومستقبله فحسب, بل إن لها هواجس في قضايا البيئة تكاد تكون متطابقة لتلك التي تحملها دول الأوبك. ومن أوجه الشبه أيضاً التي لا يمكن إغفالها بين شركات البترول وبين دول الأوبك الصورة النمطية السلبية التي رسمتها لكليهما وسائل الإعلام الغربية في أذهان المجتمعات ولا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم لم تعد الحكمة خافية فيما ذهبت إليه تلك الشركات باختيار مراكز أبحاث تتمتع بمصداقية عالية في المجتمع الأمريكي وبالذات في ساحات الرأي العام ودوائر أصحاب القرار.
غير أن بناء جسور مع تلك المراكز يعتمد بقدر كبير على الآلية التي يتم اختيارها للتواصل معها. ذلك أن الحرية الأكاديمية التي يتمتع بها الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في مؤسسات التعليم العالي الأمريكية تسمح لهم بالتحفظ على, وربما رفض, أية مساهمات مالية للبحث العلمي إن كانت مصادرها لا تروق لهم كالمنظمات والمؤسسات الحكومية الأجنبية, أو شركات ذات سجل مقلق في قضية البيئة, أو غيرها من قضايا الرأي العام. ومن ثم لا بد من مراعاة تلك الجوانب إن رئي بناء شراكات استراتيجية للتعاون مع تلك المراكز في إطار مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لدراسات الطاقة والملفات المرتبطة بها. ولعل من حسن حظ المملكة أن لديها قنوات يمكن تسخيرها لتفعيل تلك المبادرة, على رأسها الجامعات السعودية.
فعلى سبيل المثال, لدينا اليوم تجربة واعدة تخوضها جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية في تأسيس برامج بحثية مشتركة مع العديد من المراكز العلمية المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن استثمارها في تفعيل مبادرة خادم الحرمين الشريفين. كما أن لدينا خبرات علمية في كثير من جامعاتنا السعودية الأخرى قادرة على العطاء ما يدعو إلى إسناد دور لها ودعوتها للمشاركة في بناء بعض الجسور جنباً إلى جنب مع الآخرين.
لقد شرع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز نوافذ حضارية وإنسانية عدة أمام الأسرة الدولية, وأحسب أن مبادرة أبحاث الطاقة واحدة من تلك النوافذ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي