سلام أم تطبيع .. أم لا هذا ولا ذاك

[email protected]

بعدما تأكد قطعا انعقاد المؤتمر الدولي الموسع للسلام بدعوة واستضافة الولايات المتحدة التي تذكرت إدارتها الحالية وهي في أواخر أيامها أنها "راعية" لعملية "السلام" برزت عدة وجهات نظر عربية حيال القبول العربي بالمشاركة في هذا المؤتمر، وجهة النظر الأولى التي قد توصف بالراديكالية تقول بعدم جدوى المشاركة من منطلق التجارب السابقة في مثل هذه المؤتمرات، التي ثبت أنها بلا نتائج حقيقية، وأن ما سُميّ بعملية السلام منذ انطلاقتها قبل عقد ونصف في مدريد لم تتقدم خطوة واحدة رغما عن العديد من الاتفاقيات والتفاهمات التي وقعت منذ أوسلو وحتى اليوم. ويطرح هنا تساؤل وهو: ما الذي تستطيع إدارة أمريكية مثقلة بالإخفاقات والفشل وهي في أواخر أيامها أن تفعله؟ إضافة إلى أن عقده يأتي في توقيت ليس في صالح العرب والفلسطينيين بالتحديد بسبب اختلال ميزان القوى لصالح العدو الإسرائيلي، في ظل ضعف التماسك العربي من ناحية، وتشرذم الوضع الفلسطيني من ناحية أخرى، وأن السلام لا يعقد إلا بين طرفين بينهما ميزان القوى متعادل أو متقارب، ولهذا فإن الطرف الإسرائيلي لن يجد ما يجبره على سلام لا يملك لا الطرف العربي ولا الفلسطيني الأوراق اللازمة لجعله مجبرا عليه، ومع وجاهة هذا الرأي إلا أنه ليس عمليا.
أما وجهة النظر الأخرى، وهي وجهة نظر تقوم على الواقعية ولكن المفرطة، فترى أن علينا الذهاب إلى هذا المؤتمر وأن نتعامل فيه ومعه بواقعية شديدة دون إفراط بالمطالب وقبول ما يمكن الحصول عليه، حتى ولو كان أقل من المأمول، ويتبنى هذا الرأي قاعدة عدم إضاعة الفرص التي تتوافر لنا, مستدلا بأن ما كنا نرفضه بالأمس نطالب به اليوم ولا نحصل عليه، وأصحاب هذا الرأي لا يرون المسألة أنها حقوق بقدر ما هي إمكانات وقدرات، ولسان حالهم هو رحم الله امرأ عرف قدر نفسه، وهذا الرأي يعكس روحا انهزامية ترى أن السلام له ثمن يدفع حسب قدرات كل طرف.
وجهة النظر الثالثة واقعية ولكن باتزان وحساب، فهي ترى المشاركة وبفاعلية وعدم الغياب عن محفل دولي كهذا مهما كان تقييمنا لأسباب ونوايا عقده، فنحن لن نكون مجبرين على ما يطرحه الطرف الآخر من جانب، ونملك من جانب آخر موقفا سياسيا متكاملا تعبر عنه المبادرة العربية للسلام، فالعرب وإن فقدوا كثيرا من أوراقهم واختل ميزان قوتهم في هذا الصراع على مدى السنوات الماضية، إلا أنهم قادرون على التمنع ورفض ما يقدم لهم مما يتعارض مع أسس الحل المتوازن، فالحضور هنا ليس المشكلة بقدر ما هو في فقدان الإرادة التي لا أظن أن العرب فقدوها حتى في هذه الظروف الصعبة.
مع تعارض وجهات النظر العربية حيال المشاركة في هذا المؤتمر، أعتقد أن الحضور العربي المكثف إيجابي بل ومطلوب، فهذا الحضور يمكن أن يستخدم لتغطية المفاوض الفلسطيني وعدم تركه وحيدا يواجه الضغوط الإسرائيلية والأمريكية، وهو ضغط متوقع ومنطقي لكون السلطة الفلسطينية تذهب إلى المؤتمر وهي في أسوأ وأضعف حالاتها، فهي تذهب على خلفية الانقسام الحاد ممثلا في نزاع "فتح" و"حماس"، وعجز منطقي أيضا لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، ولهذا فليس في يد الفلسطينيين من ورقة ضغط إلا ورقة الحضور العربي متى ما كان فاعلا وقادرا على تأمين ظهر المفاوض الفلسطيني المكشوف.
المهم الآن أن المؤتمر يعقد فعلا هناك في أنابوليس، وهو في الشكل والمضمون لا يختلف عن مؤتمر مدريد الذي عُقد في عام 1991م، والتطابق هو في كونهما مجرد احتفالية أكثر منها مؤتمرا تفاوضيا حقيقيا، فمؤتمر مدريد كان احتفالا بإطلاق ما سميّ وقتها بعملية سلام، وأنابوليس يراد أن تكون احتفالية لعملية تطبيع واسعة مع العالم العربي، وبالذات مع دول الخليج، وما فشلت فيه مدريد سوف تفشل فيه أنابولس، فبعد احتفالية مدريد وحتى اليوم لم نر سلاما وأكبر دليل عليه هو عقد هذا المؤتمر، وبالتأكيد لن نرى تطبيعا من أنابوليس حتى ولو احتفل به, وهنا مكمن المخاطرة في أنابوليس، فالتطبيع المجاني ليس فقط قفزا على أسس السلام الحقيقي، بل دفع المنطقة إلى المعلوم، كما يبدو من حالات الاحتقان الشديد في المنطقة بكاملها من أفغانستان وحتى فلسطين ولبنان، وأكثر ما يخشى هو أن تُنهي أنابوليس عملية السلام الراقدة أصلا في غرفة إنعاش ولا تحقق التطبيع المستحيل حتى ولو تحقق، ويظن أن النتيجة النهائية لن تكون سلاما حتى ولو مترنحا، ولا تطبيعا حتى ولو صار شكليا، أما البديل فشيء آخر لن يمكن السيطرة عليه أو قياسه والمنطقة مجهزة لكل الاحتمالات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي