ألمانيا والشرق الأوسط
امتدادا للفتوى بالجهاد ضد أعداء الدولة العثمانية، فإن المسلم الذي يحارب مسلمين ـ حتى لو أرغم على ذلك ـ هو في جهنم وبئس المصير. وتجاوزت الفتوى إلى آفاق جديدة، فأصبح قتال المسلمين ضد ألمانيا والنمسا وإلى جانب روسيا وصربيا والجبل الأسود وإنجلترا وفرنسا خطيئة لا تغتفر.
وحسب نص هذه الفتوى فإن المسلمين كافة في أنحاء العالم كانوا تحت سيطرة وسيادة السلطان العثماني، لأنه أمير المؤمنين في الوقت ذاته، وكان من المسموح لهم أن يقاتلوا الكفار وأن يتحالفوا مع كفار آخرين، وأن يثوروا على قادتهم غير الموالين للدولة العثمانية مهما كانت الأسباب. ودعم الشيخ صالح الشريف التونسي فكرة الجهاد وطلب إليه أنور باشا أن يسافر إلى برلين للدعوة لفكرة الجهاد بين الألمان.
لهذا كتب الشيخ صالح كتابا تحت عنوان "حقيقة الجهاد" الذي طبع في مطلع 1915 بواسطة الجمعية الألمانية لدراسة الإسلام، وصفه الخبراء بأنه تطوير للجهاد، وأشار الكتاب إلى جهاد جزئي ضد كفار الحلفاء، وهو واجب على كل مسلم، ولا يمكن إقرار السلام بين العالم الإسلامي وأوروبا طالما بقيت قوات أوروبية تحتل أجزاء من العالم الإسلامي.
غير أن تنفيذ فكرة الجهاد كان محبطا بالنسبة لماكس فون أوبنهايم وإدارة الأخبار الشرقية التي كان يديرها من وزارة الخارجية، ذلك أن الغالبية العظمى من المسلمين تجاهلوا الدعوة للجهاد، رغم الأموال الضخمة التي ضخها الألمان في الحملات التي تم تجريدها إلى العالم الإسلامي، وعلى الرغم من سيل الكتابات الدعائية التي أصدرتها برلين، منها صحيفة أسبوعية بعنوان "الجهاد"، غير أن بذور الثورة كانت قد وضعت كما قال شابنجر أحد الخبراء المسؤولين عن استقطاب المسلمين تحت اللواء الإسلامي.
وتوقع أن يهب المسلمون ثائرين على حكامهم الأوروبيين حتى ولو بعد حين، ولكن القيادة الألمانية العسكرية العليا كان لها رأي آخر، إذ قررت أن فكرة إسهام الجهاد في حسم مجريات الحرب كانت وهما كبيرا.
وعلى الجبهة الأخرى المعادية، أعلنت مصادر فرنسية عام 1916 أن إعلان الجهاد قد حرك عناصر عديدة للثورة باسم الإسلام، ورغم فشل معظم هذه الجهود، إلا أنها سببت ارتباكا كبيرا لقوى الوفاق أو الحلفاء. وأنحى الفرنسيون واليهود باللائمة على الألمان المتخصصين في الشؤون الشرقية لدورهم في إخراج الجني من القمقم وإيقاظ روح التحدي لدى المسلمين لاسترداد أراضيهم. لذلك فإن وجود 30 ألف ألماني بين صفوف الجيش العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى كان يعد دعما لهذا الجهاد، وإن كان المؤرخون يبررون ذلك ببساطة بتحالف العثمانيين مع الألمان وحرص الألمان على أن يجيد العثمانيون القتال لإجهاد العدو المشترك. كما أن محاولتي تركيا مرتين للاستيلاء على قناة السويس وتولي ألماني هو هانز فون سيخت منصب رئيس أركان الجيش التركي، كانت أدلة ساقها خصوم ألمانيا للتدليل على غرقها في فكرة التحالف مع المسلمين ضد الأوروبيين، ولكن الرأي الآخر الذي يتبناه معظم المؤرخين أرجع ذلك إلى التحالف الألماني ـ التركي.
وبعد أن خسر الألمان الحرب وانقلبوا على إمبراطورهم فيلهيلم الثاني لم يعد الرايخ الألماني مملكة، بل أصبح جمهورية فيمار، وفقدت ألمانيا ثلث مساحتها وكان عليها الامتثال لمطالب المنتصرين. وبدأت إعادة التعمير والإصلاح، ولم تعل نغمة على هذا الاتجاه. ومن ثم عادت برلين إلى سياستها الثانوية تجاه الدول الإسلامية.
وحسب نصوص معاهدة فرساي فقدت ألمانيا مستعمراتها في وسط إفريقيا في الكاميرون وتنجانيقا, وبدأ تركيز الساسة في الجمهورية الجديدة على التجارة والثقافة, وهما الدعامتان اللتان بقيتا تمثلان التعامل الألماني مع دول الشرق الأوسط حتى الآن. تضمنت هذه السياسة احترام الأمر الواقع وعدم المطالبة بأراض جديدة, أما الدعامة الثالثة فكانت القيام بدور الوسيط في الصراعات التي تثور في الشرق الأوسط, وسرعان ما عملت القوى المنتصرة على تقليص الدور الألماني في هذا الصدد لإلغاء أي وجود ألماني في الشؤون الدولية, ما ولد لدى الألمان شعورا بالضيق وأثار في صدورهم نزعة الانتقام.
في مطلع العشرينيات أدخلت وزارة الخارجية الألمانية عدة إصلاحات على أسلوب تعاملها مع الشرق الأوسط, فخرجت عن بعض تقاليدها القديمة, وبدلا من أبناء الطبقة الارستقراطية من ذوي التعليم الرفيع خاصة في مجال القانون وبدلا من خيرة المترجمين المتميزين في اللغتين العربية والألمانية بدأت ألمانيا ترسل خبراء ينتمون إلى كل التخصصات والمستويات والخبرات. ونجحت برلين في استعادة مواقعها تدريجيا, ولذلك احتلت المركز الثالث من حيث التعامل التجاري بعد إنجلترا وفرنسا في الشرق الأوسط.
وكان هناك تساؤل مستمر يجري طرحه في برلين: هل ندعم التصنيع في المنطقة؟ وكانت الإجابة النهائية أن ألمانيا إذا لم تفعل ذلك فإن غيرها ستقوم بالمهمة وبذلك يضعف موقفها التنافسي. وكان الألمان شركاء مقبولين في الشرق الأوسط, خاصة في العراق والسعودية ومصر. كما أن الطلبة الذين ينتمون إلى العالم العربي عادوا إلى بلادهم ونجحوا في تحقيق نجاح مهني كبير, فكانوا يفضلون ألمانيا في إطار مناخ يرفض الإنجليز والفرنسيين الذين تعودوا على فرض إرادتهم بالقمع والقهر ولكن جمهورية فيمار كانت تخشى إغضاب الإنجليز والفرنسيين فدأبت على دعم العرب والمسلمين بهدوء ودون صخب وشجعتهم على التخلص من هؤلاء المستعمرين. وهنا بدأت أولى لبنات التعاون بين الألمان من ناحية وبين الأتراك والعرب والإيرانيين من ناحية أخرى, ولم يكن من الصعب على دبلوماسيين من أمثال الدكتور فرتيز جروبا أن يستغل مشاعر التعاطف التي أوجدتها المشاركة بين ألمانيا وتركيا في الحرب ضد عدو مشترك انتصر عليهما. أما الإيرانيون والعرب فكانت قضية نضالهم ضد المحتل التقليدي تؤرقهم ونجح الألمان في استقطاب العناصر الراغبة في القضاء على المستعمرين. واكتشف الألمان كم لعبت معاهدة فرساي دورها في تكبيلهم وإذلالهم, فقد نصت على عدم تملكهم أية قطع بحرية أو أسلحة حربية, وهو ما أضعف موقفهم أمام أصدقائهم من المسلمين.
وكانت لندن في تلك الآونة قد ألقت بثقلها وراء اليهود وقررت أن تساعدهم على إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين, وبعد صدور وعد بلفور 1917 تدفقت موجات الهجرة اليهودية على فلسطين بتشجيع ومباركة إنجليزية وفرنسية. وهنا دخلت فلسطين قلب الأحداث وحرصت برلين على عدم الدخول في هذا الموضوع واحتفظت بمسافة بينها وبين التطورات التي جرت في هذا الصدد. ورغم أن بعض ساسة ألمانيا عدّوا هجرة اليهود إلى فلسطين حلا لكل مشكلات وسط أوروبا للدور الهدام الذي دأب اليهود على لعبه من وراء الستار في تلك الدول, إلا أن بعض الساسة لم يخفوا تخوفهم من التحولات الدولية التي ستتبع تعاظم دور اليهود في العالم. أدى ذلك إلى بروز موجات العداء لليهود قبل ظهور هتلر على مسرح الأحداث الذي يحمله اليهود كل أوزار كراهيتهم (مع أنهم طردوا من خمس دول من قبل: روسيا, إنجلترا, فرنسا, هولندا, وإسبانيا, ولم يكرم وفادتهم إلا دول مثل المغرب والدولة العثمانية ومصر .. إلخ). أما فيما يتعلق بالتعاون مع المسلمين فقد التزم هتلر الذي وصل إلى منصب المستشار عام 1933 السياسة السابقة التي انتهجتها حكومة فيمار, وكان مهتما بإنجلترا التي اعتقد أن بوسعه تقسيم المجال الحيوي, معها بحيث يحصل هو على شرق أوروبا بأكمله, ومن هنا جاء قبوله استمرارية الإمبراطورية البريطانية وترك هتلر كل ما يتعلق بالتعامل السياسي مع الشرق الأوسط لروسيا وإنجلترا وإيطاليا, وكان في هذا المضمار متأثر بمؤسس ألمانيا الحديثة أوتوفون بسمارك الذي كان يعد المستعمرات مصدرا للمشكلات والإزعاج. وإذا تأملنا سياسة هتلر في الشرق الأوسط سنلاحظ أنه لم يبد أي اكتراث بالمنطقة. وقد أسس محورا مع إيطاليا وعهد لها بمهام شرق أوسطية مع الحرص على عدم إغضاب بريطانيا. وكان رجال من أمثال مفتى فلسطين الشيخ أمين الحسيني أكثر اهتماما بهتلر من اهتمام هتلر بهم. كما أن المشكلات المالية كبلت أيدي هتلر, حيث إنه خصص الإمكانات المالية كافة لإعادة بناء ألمانيا. ولكن كان بالإمكان تغيير كل ذلك في ظل ثلاثة احتمالات:
أولا: إذا وقع خلاف مع لندن أو باريس أو موسكو فإن الشرق الأوسط يمكن أن يصبح ساحة قتال رئيسية, ولهذا اهتم جنرالات ومخططو العسكرية الألمانية بدراسة المستعمرات الإنجليزية والفرنسية والروسية, وحتى أثناء السلام فإن هتلر عين آخر رؤساء وزارات جمهورية فيمار فرانز فون بابن سفيرا في أنقرة, ما يعكس اهتمام هتلر بتركيا.
ثانيا: قد يصبح الشرق الأوسط منطقة مهمة إذا تعرضت مصالح المحور (ألمانيا, إيطاليا, واليابان) للخطر, علما أن ألمانيا لم تنظر للشرق الأوسط على أنه منطقة مواد خام, إذ كانت تعتمد على شرق أوروبا.
ثالثا: في حالة فشل الحرب الخاطفة التي كان هتلر ينوي تطبيقها ـ وطبقها بالفعل ـ فإن الشرق الأوسط سيكون فرصة لاصطياد أكبر عدد من القوات المعادية وتعريضهم للحرب خارج بلادهم ولهجمات الدول صاحبة الأرض, خاصة إذا ما فكر في الاستيلاء على قناة السويس أو البحث عن قاعدة للهجوم على روسيا من الجنوب.
وهنا عادت لذهن هتلر فكرة الجهاد الإسلامي, غير أن هتلر كان متأكدا أنه لن يحتاج إلى المنطقة قدر احتياج إيطاليا إليها. ولم يتحقق أي من الاحتمالات الثلاثة, فقد أعلنت المستعمرات المسلمة تأييدها للمستعمر وأعلنت الحرب على هتلر.