العيد .. عودة بالإنسان إلى فطرته
هل أصبحنا في حاجة إلى العيد أكثر ممن سبقونا؟ وهل صار إنسان اليوم في حاجة إلى دخول قسري في أجواء الفرح والبهجة الحقيقية لتنتشله من واقع مزيف كله كآبة وتعب نفسي ومادي وصراع وتزاحم وتكالب على الأمور المادية التي ما إن يصلها الإنسان ويستحوذ عليها حتى يسيء استخدامها فتزيده هما وتعاسة؟ فالإنسان له أن يجرب كل الطرق والمسارات في هذه الحياة وسيجد أنها لا تجلب له إلا المزيد من التعب والشقاء والتعاسة, "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا", وأما الاطمئنان النفسي والراحة في هذه الحياة والفوز بنعيمها فلن يحصل عليه إلا عند الله "ألا بذكر الله تطمئن القلوب". من هذا المنطلق تختزن الأعياد الدينية الكثير من المظاهر والمعاني التي تحقق لهذا الإنسان العودة إلى ربه وما الاحتفاء بها وممارسة طقوسها الخاصة بها إلا استجلاب لهذه المعاني ومحاولة لتعزيز حضورها ووجودها في نفس الإنسان وفي التأسيس لعلاقته وتواصله مع من حوله. ففي عيد الفطر الذي يأتي في نهاية رحلة ومعراج روحي تتطهر فيه النفس من الكثير من الظلمات التي ربما نزلت بها نتيجة التعلق الشديد بهذه الدنيا وملذاتها ومتعها وتغتسل فيه الروح بالنور السماوي من خلال التصاقها بذكر الله وقراءة القرآن وارتياد بيوت الله, تكون النفس فيه مستعدة للعودة إلى فطرتها السليمة وإلى إنسانيتها التي ربما انتقصت بسبب الأهواء والرغبات والشهوات الجامحة, وبهذه العودة المرجوة يستطيع الإنسان أن يؤسس لنفسه شخصية عندها من الاستعداد الكافي لتبادل المحبة مع الآخرين والتواصل معهم في إطار منفتح وإنساني.
فالعودة إلى الحب ومحبة الآخرين والتواصل معهم من أجلّ وأرقى المعاني التي نتلمس حضورها في هذا العيد المبارك, وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا المناخ, مناخ الحب ومحبة الآخر, ونحن اليوم أمام مرحلة تحتم علينا نقاش الكثير من قضايانا التي تنتظر منا توافقات لا بد منها لترميم حاضرنا والتأسيس لمستقبلنا.
إن فطرة الإنسان بطبيعتها التي خلقها الله, سبحانه وتعالى, لا تقبل الكراهية ولا تنسجم مع مشاعر البغض والعداوة مع الآخر, فالكراهية والبغضاء والعداوة هي حالات طارئة وعدم التخلص منها تمهيد لإصابة فطرة الإنسان وروحه بأمراض ربما تشوه طبيعتها, ومن هنا نحن في حاجة إلى مثل هذا العيد للتجديد من طبيعة فطرتنا والالتفات لها لترميمها والتأكد من سلامتها ونقاوتها. وكلما استطعنا أن نغترف من هذا العيد ما استطعنا من معاني الحب والمحبة فإننا سنكون في مأمن, إن شاء الله, من كل من يريد أن يخترق وحدتنا وسلامة مجتمعنا واستقرار حياتنا. فهذا العيد فرصة لنا لأن نتذكر أن المحبة الحقيقية, التي تنشدها فطرتنا السليمة, لا تعني أبدا أننا نحب فقط من يتفق معنا أو يأخذ برأينا أو يتبع طريقتنا أو يقول بقولنا أو يلتقي معنا في تفاصيل ما نؤمن به. فهذا ليس بحب وإنما أنانية واستغراق في الذات وإلغاء الآخر, فالحب هو تقبل للآخر واستيعاب له والاعتراف له بخصوصيته وتأكيد التواصل معه في إطار المشتركات الإنسانية والوطنية وغيرها.
أما إذا جعلنا هذا العيد فقط مناسبة للعب واللهو والاستمتاع والاستغراق في الملذات ولم نلتفت إلى ما يتيحه لنا هذا العيد من قيم ومعان تداوي قلوبنا بالحب وتخلصنا من مشاعر الكراهية للآخرين, التي ربما نحملها بين جنبات نفوسنا وفي طيات أرواحنا, فإننا بذلك نضيع علينا فرصة عظيمة. فنحن اليوم نعيش في منطقة مضطربة جدا وفيها من الاستقطابات والصراعات الدينية والطائفية والاجتماعية والدولية ما قد يشكل خطرا علينا وعلى وحدتنا الاجتماعية, فعلينا ألا نسمح لأي منا بالقول أو الفعل بأن يشيع مشاعر الكراهية بيننا, بل المطلوب هو المزيد من تأكيد الخطابات والدعوات من النوع التي تحصن وحدتنا وتعزز تلاحمنا الاجتماعي والوطني. سيبقى هناك من لا يريد الخير لهذا الوطن وسيبقى يحاول المرة تلو الأخرى لأن يكرس فينا ثقافة الكراهية والإقصاء لبعضنا ولكن ستبقى الأغلبية إلى صف الوطن وستمنع عليه وعلى غيره ممن يريد لهذا الوطن ولهذا المجتمع أن ينزلق في أتون الصراعات المذهبية والاجتماعية. وبهذا العيد والاحتفال به وباستحضار معانيه وقيمه نستطيع أن نجعل من صوت المحبة الصوت الأعلى, فمجتمعا جرب السماح للأصوات التي تدعو للكراهية وجرب بحسن نية أن يستمع إلى الثقافة التي تريد أن تصنف الناس وتريد أن تقيم على هذا التصنيف مجتمعا يعيش التفكك ويفتقد روح التآلف والتعاون بين أفراده, والمجتمع اليوم وهو يرى ما آل إليه حال المجتمعات البعيدة منها والقريبة نتيجة مثل هذه الثقافة التي تريد أن تنتشلنا من إنسايتنا وأن تشوه فطرتنا, لهو أكثر حرصا اليوم على عدم التجاوب معها, وأشد إصرارا على رفضها والتخلص نهائيا من تبعاتها. فثقافة المحبة التي يؤكد عليها هذا العيد المبارك وغيره من الأعياد والمناسبات الدينية هي التي تنتج لنا الأمن والاستقرار, وتنشر في ربوعنا السلام وتبعث الطمأنينة في نفوسنا, وأما ثقافة الكراهية هي مدخل للشيطان, ولا يأتي مع الشيطان إلا التوتر والفوضى وعدم الاستقرار واللجوء إلى العنف للتعبير عن تنوع آرائنا وتعدد اجتهاداتنا.
نعم, إن في العيد عودة بالإنسان إلى فطرته وإنسانيته, وكم نحن في حاجة إلى مثل هذه العودة المباركة, وهناك من يريد منا أن نزداد كراهية لبعضنا, ولكنا نستطيع ببركة هذا العيد أن نصد محاولاتهم ونرد عليهم دعواتهم, فديننا دين المحبة ونبينا نبي الرحمة, وبعيدنا هذا نجدد كل معاني المحبة والرحمة في نفوسنا, التي يبشر بها ديننا ويدعو لها نبينا.