الجينات.. ومستقبل الطاقة

لم يكن اكتشاف العلماء الخريطة الجينية بالحدث المهم بالنسبة للعالم العربي، إلا أن هذا الحدث سيغير وضع العالم العربي، شاءت شعوبه أم أبت. فمن جهة، سيزيد هذا الاكتشاف من الفجوة العلمية والاجتماعية والاقتصادية بين الدول الصناعية والعالم العربي. بعبارة أخرى، ستزيد من تخلف العالم العربي مقارنة بهذه الدول. من جهة أخرى، فإن هذا الاكتشاف قد يؤدي إلى إيجاد مصدر منافس للنفط، الأمر الذي سيجعل الفجوة شاسعة. وستزداد الفجوة اتساعاً بسبب رحيل العقول والأموال العربية إلى الغرب. وهناك احتمال أن تؤدي هذه التطورات إلى زيادة ضخمة في إنتاج النفط في المنطقة، الأمر الذي سيرفع من دخلها، ولكنه في الوقت نفسه سيزيد من اعتمادها على مصدر واحد، وسيمنعها من تحقيق تنمية اقتصادية تمكنها من اللحاق بركب الدول المتقدمة.
اكتشاف الخريطة الجينية أوجد مجالات علمية جديدة لم تكن موجودة من قبل، كما أنه أوجد شركات ضخمة توازي في حجمها شركات النفط العالمية، إلا أن الفرق أن هذه الشركات وصلت إلى هذا الحجم خلال عدة سنوات فقط، بينما يبلغ عمر شركات النفط عشرات السنين، ووصلت إلى هذا الحجم بعد عدة عمليات من الاندماج. وهناك فروق أخرى منها أن هذه الشركات تعتمد على "المعرفة" كسلعة رئيسة، بينما تعتمد شركات النفط على "النفط" كسلعة رئيسة.
هذه "المعرفة" قد تمكن الدول الصناعية من العودة إلى "الفحم"، والذي تتركز احتياطياته في كبرى الدول المستهلكة للطاقة في أوروبا، أمريكا الشمالية، الصين، والهند، وذلك عن طريق أنواع مختلفة من البكتريا التي تزيد من إنتاج الغاز من الفحم، أو تغير من خصائص الفحم نفسه. هذه المعرفة قد تغير من طبيعة الإنسان ومدى إحساسه بالسخونة والبرودة، بحيث يصبح استهلاكه للطاقة في التبريد والتسخين أقل. هذه المعرفة قد تغير صناعات كثيرة بحيث ينخفض الطلب على الطاقة بشكل كبير. مثلاً، يمكن تغيير بعض النباتات جينياً بحيث تحتوي على أمصال أو أدوية معينة تلغي إنتاج هذه الأدوية نهائياً، وتلغي كل البحوث اللازمة لتطوير هذه الأدوية، والتي تتطلب كميات ضخمة من الطاقة على مدى عدة سنوات من البحث والتطوير. كما يمكن صناعة أشياء كثيرة يمكن استخدامها بشكل يومي ثم التخلص منها على شكل نفايات "عضوية" تتحل بسرعة وتتحول إلى "غاز" يستخدم في توليد الكهرباء.

"الثورة الجينية"
يقول الباحث في جامعة هارفارد خوان إنريجيس في كتابه "عندما يمسك بك المستقبل" إنه بإمكان "بلد نامٍ أن يخفض التضخم ويحارب الفساد الإداري وأن يخفض الإنفاق وأن يخصخص المنشآت الحكومية، ولكن كل ذلك لن يجعل منه بلداً غنياً لأنه ينتج سلعاً (مثل النفط) ولا ينتج المعرفة". ثم يشير الكاتب إلى أن 84 في المائة من الأوراق العلمية (البحوث) تم إنتاجها في أمريكا الشمالية، أوروبا الغربية، واليابان. يستدل إنريجيس ببيانات مفادها أن نسبة الصادرات الأولية في إجمالي الصادرات، أو عكسها، نسبة "المعرفة" في الصادرات، تحدد الفرق بين الغنى والفقر، وبين البقاء والموت. فنسبة صادرات "المعرفة" متمثلة في تكنولوجيا المعلومات في الدول الغنية أعلى منها بكثير من الدول التي تعتمد على صادرات المواد الأولية.
لكن هدف إنريجاس ليس توضيح ما أصبح معروفاً للجميع، وإنما أن يوضح أنه إذا كانت ثورة تكنولوجيا المعلومات قد سببت هذه الفروق الضخمة في الدخل بين الدول المتقدمة والمتخلفة، فإن الثورة الأكبر منها هي ثورة "المعرفة الجينية" التي ستغير العالم، وستغير مسار التاريخ.
فأكبر الشركات العالمية حالياً نتجت عن اندماج عدة شركات مع بعضها، وكان السبب الأساس للإندماج هو الثورة الرقمية، إلا أن الإندماجات الحالية والمستقبلية سببها هو التمكن من معرفة الخريطة الجينية. يقول إنريجيس "إن أغلب البالغين في العالم اليوم مازالوا يعيشون من استنبات وتحويل وتوزيع وبيع الطعام، والألياف، والمشروبات. لكن القدرة على تغيير جينات البكتريا والنباتات والحيوانات ستخلق فرصاً ضخمة. فبدلاً من زراعة القمح للحصول على دقيق، يمكن للمزارعين تنمية الأدوية والبلاستيك والوقود"، لكنه يؤكد أن ذلك لن يقوم به إلا "المزارعون الذين لديهم المعرفة والتكنولوجيا" والذين سينعمون بالرفاهية نتيجة هذه القدرات.
فالبذرة بالنسبة لعلماء الجينات هي أداة صممت لتنفذ برنامج جيني يقوم بتحويل التربة والماء وأشعة الشمس إلى فواكه وخضار وخشب وأزهار. لذلك فإن من يستطيع فك رموز هذا البرنامج، والذي أصبح ممكنا الآن، يستطيع تغيير بعض رموزه ليغير ما يقوم به النبات وما يمكن أن ينتجه. لذلك لا عجب من سيطرة كبار الشركات الصناعية في العالم على أكبر شركات البذور في العالم. فأغلب البذور في الولايات المتحدة تبيعها شركتان: دو بونت ومونسانتو. هذه البذور المهجنة غالية الثمن مقارنة بالبذور التقليدية، ولكنها أيضاً مرغوبة لأنها تعدلت جينيا، بحيث تضاعف إنتاجها وأصبحت أكثر قدرة على تحمل التقلبات المناخية وأصبحت أكثر مناعة للحشرات والبكتريا.
نتج هذه التعديلات تطورات كبيرة قد يكون لها أثار مهمة في وضع الطاقة في العالم، ووضع العالم العربي بنفطه وبتركيماوياته. استطاعت شركة داو كيميكالز إنتاج ذرة يمكن منها إنتاج بلاستيك يتحلل عند دفنه، كما استطاعت شركة دو بونت زراعة نباتات تنتج بلويستر (والذي يأتي حالياً من النفط) يشبه الحرير.
ختاماً، يرى إنرجيس أن "الدول، والشركات، والحكومات التي تهدف إلى حماية الوضع السائد والإبقاء عليه، ستصبح فقيرة لا محالة، في الوقت الذي تنتشر فيه التكنولوجيا في المناطق الأخرى". ويقصد إنريجس هنا القدرة على "خلق التكنولوجيا" ويربط بينها وبين قدرة الجامعات والمدارس على إنتاج العقول التي تنتج هذه التكنولوجياً، رابطاً بين قدرات الطلاب في الرياضيات والفيزياء، وعدد براءات الاختراع، ومن ثم هذا الإبداع الذي مكن الأفراد والشركات من الحصول على ثروات لم يشهدها التاريخ من قبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي