استخدام المنطق المتعقل في التعامل مع إيران
لقد توقفت المفاوضات بشأن البرنامج النووي الإيراني لأكثر من ثلاثة أعوام. ويبدو أن الأصوات المتعقلة كانت مغمورة إلى حد كبير تحت ركام المشاعر والأوهام فيما يتصل بكسب الصدارة والأسبقية.
ويبدو أن البلدان التي تمتلك ترسانات نووية تتصور أنها قادرة على إعطاء الأوامر لإيران؛ وهو موقف أشبه بأن تقول لشخص ما "افعل كما أقول لك وليس كما أفعل أنا". ومن بين الأوهام الأخرى المفضلة في الغرب أن نقنع أنفسنا أن إيران ستستسلم وتذعن لنا إذا ما واصلنا فرض الضغوط عليها بشكل مطرد. بيد أن أي شخص مطلع على العقلية الإيرانية لابد أن يدرك تمام الإدراك أن هذه الاستفزازات لن تؤدي إلا إلى تحريك مزيد من مشاعر التحدي.
لكن إيران أيضاً تتمسك ببعض الأوهام، بما في ذلك تصور مفاده أنها قادرة على الاعتماد على دعم البلدان غير الغربية لها، أو على الأقل دعم كتلة إسلامية من نوع ما. ولكن في كل مرحلة من مراحل الأزمة كان "أصدقاء" إيران المزعومون يخذلونها. كما كانت إيران تتصور أيضاً أنها قادرة على إحداث فُرقة بين فرنسا، وربما ألمانيا، والولايات المتحدة ـ وكأن أياً من البلدين قد يجازف بإثارة غضب الولايات المتحدة من أجل خاطر زعيم مثل محمود أحمدي نجاد.
وفوق كل ذلك فإن إيران تضلل نفسها حين تتصور أنها قادرة على تطوير برنامج نووي متقدم اعتماداً على نفسها. فالواقع أن هذه الانعزالية المستمرة من شأنها أن ترغم إيران على إعادة اختراع تكنولوجيات نووية سبق لآخرين أن اخترعوها بالفعل، وبنتائج هزيلة بلا أدنى شك.
والحقيقة أن المشاعر متنوعة ووفيرة. فالغرب يشعر بالاشمئزاز إزاء تجاوزات النظام الإيراني فيما يتصل بحقوق الإنسان والخلط على نحو لا يخلو من رياء بين الدين والسياسة. فضلاً عن ذلك فإن الغرب يبغض الإهانات المتواصلة الموجهة إلى إسرائيل، واليهود، والغرب عموماً.
وهناك اقتناع عميق في الغرب أن أي نظام إيراني بهذه المواصفات لابد وأن يكون راغباً في اقتناء الأسلحة النووية، وأنه يعمل وفقاً لهذه الرغبة بالفعل. بيد أن الغرب ظل يتكهن بقدرة إيران على تصنيع القنبلة النووية طيلة 20 عاماً. وما زال الناس على اقتناعهم أن هذه التوقعات إن لم تصدق في العام المقبل فلسوف تصدق في العام الذي يليه.
وعلى هذا فقد تحول عبء الإثبات على نحو خبيث. فكما ذكرت أنجيلا ميركيل في الأمم المتحدة في عام 2007: "إن العالم لا يحتاج إلى أن يثبت لإيران أن إيران تعمل على تصنيع قنبلة نووية، بل يتعين على إيران أن تقنع العالم أنها غير راغبة في اقتناء القنبلة". والمشاعر محتدمة أيضاً في إيران، التي أصبحت سعيدة على ما يبدو بعودتها إلى دورها المعتاد كضحية أبدية لمخططات تسعى القوى العظمى إلى تنفيذها ضدها.
من وقت إلى آخر يحاول محمد البرادعي، المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، العودة إلى إعمال العقل والمنطق وتذكير الجميع أن التركيز لابد وأن يظل على القدرات الحقيقية وليس النوايا. وهذا بدوره يثير سؤالاً عملياً بشأن القدرة الإيرانية الحالية فيما يتصل بتصنيع القنبلة النووية. وهل من الممكن أن نستكشف مسبقاً الأنشطة السرية الرامية إلى إنتاج القنبلة، وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يتعين على إيران أن تبذله من تعهدات فيما يتصل بمسألة المفتشين وعمليات التفتيش، وكيف يمكن ضمان الوفاء بمثل هذه التعهدات؟
نحن نعلم أن إيران حققت تقدماً فيما يتصل بتكنولوجيا الطرد المركزي التي تشكل الأساس لإنتاج اليورانيوم المخصب اللازم لتصنيع الأسلحة النووية. ومن المرجح أن فِـرَق العمل الإيرانية كانت تعمل أيضاً على تطوير الأنظمة الميكانيكية الخاصة بتفجير السلاح النووي، أو على الأقل ما زالت في مرحلة التخطيط الأولي، كما تعمل إيران أيضاً على تطوير الصواريخ الباليستية القادرة على جعل عدد من عواصم المنطقة في متناول ذراعها النووية ـ وبطبيعة الحال ستشكل المدن الإسرائيلية الهدف الواضح لمثل هذه الهجمات.
ورغم ذلك فما زال على إيران أن تجمع كل هذه البرامج في كيان واحد متكامل، وليس من الممكن أن يحدث ذلك دون أن يكتشفه أحد. ربما تكون إيران قادرة على إنتاج المواد النووية الكافية لتصنيع قنبلة أو اثنتين في غضون الأعوام القليلة المقبلة، ولكن مثل هذه الأنشطة ستظهر إلى العلن لا محالة، وذلك لأن إيران إما أن تضطر إلى تخصيب اليورانيوم تحت أعين مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو تبادر إلى طرد هؤلاء المفتشين.
في هذه المرحلة ما زالت إيران في حاجة إلى عام على الأقل قبل أن تتمكن من تجميع قنبلة أو اثنتين من طراز قنبلة هيروشيما. والجزء الأصعب في الأمر لم يبدأ بعد: عملية التصغير اللازمة لوضع القنبلة على رأس صاروخ حربي. وهنا أيضاً سيكون من السهل اكتشاف أي اختبارات تجريها إيران. وهذا يعني أن بناء إيران لترسانة نووية يمكن الاعتماد عليها لن يستغرق أقل من عقد من الزمان.
لا أحد يستطيع أن يجزم بأن النظام الإيراني قد تبنى بالكامل برنامج تصنيع الأسلحة النووية. فرغم أن عدداً من القادة في إيران يتلاعبون بالفكرة، إلا أن آخرين منهم حريصون على وزن ودراسة التكاليف المترتبة على مثل هذه المغامرة ـ التهديد المتمثل في شن ضربات وقائية من الخارج، والعزلة المتزايدة، واندلاع سباق تسلح نووي إقليمي.
ستستمر الخيارات المتاحة أمام الغرب في التضاؤل إذا ما أصر على مساره الحالي. وإنه لأمر مؤسف حقاً أن المفاوضات الرسمية مع إيران قد توقفت منذ عام 2005، وسط المطالبات الغربية بتعليق إيران لكل الأنشطة المرتبطة بالتخصيب. لقد أهدرنا ثلاثة أعوام، ولم نر أي إشارة لتعليق عمليات التخصيب أو الاستعداد للتفاوض.
ولكن هل تتمتع المفاوضات بأي فرصة للنجاح ما دام أحمدي نجاد رئيساً للبلاد؟ الإجابة هي "كلا" ما دام هدفنا يتلخص في إرغام إيران على التخلي عن أنشطة الطرد المركزي كافة. ولكن هذا الهدف كان أيضاً بعيد المنال أثناء ولاية الرئيس محمد خاتمي، سلف أحمدي نجاد الذي كان يتمتع بعقلية إصلاحية. إذ إن الحصول على هذه التكنولوجيا كان حتى آنذاك يشكل أولوية وطنية.
إذا ما بدلنا هذا المسار فربما يكون بوسعنا أن نحرز أي شكل من أشكال التقدم الحقيقي. على سبيل المثال، إذا ما تم الاتفاق على إحاطة الأنشطة الإيرانية النووية بالقدر الكافي من الضوابط والقيود المقبولة طوعاً، فسوف يكون بوسعنا أن نثق في قدرتنا على استكشاف أي انحراف نحو الأغراض العسكرية في مرحلة مبكرة. وتستطيع إيران أن تطور برنامجها النووي السلمي، بينما تظل من بين الأطراف الموقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية؛ كما سيظل بوسع الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن تضطلع بدورها باعتبارها آلية رقابية؛ وربما يصبح في الإمكان مع الوقت استعادة الثقة في النوايا الإيرانية.
ليس لدينا الآن أي سبيل إلى التكهن بما إذا كان هذا المسار عملياً ما لم نجربه. ولكننا ندرك تمام الإدراك أن البدائل ـ تصعيد العقوبات، والضربات العسكرية، وربما الحرب ـ ستؤدي إلى عواقب لا يمكن التنبؤ بها. وليس للغرب أن يتوقع من إيران أي استجابة متعقلة ما لم يكن سلوكه عقلانياً في المقام الأول.
خاص بـ "الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت ـ عالم أوروبا، 2009.
www.project-syndicate.org
www.europesworld.org