"عفواً .. لن أخدع المجتمع"
عنوان المقالة عبارة سمعتها منذ أكثر من 40 عاماً في السنة الأولى من دراستي الجامعية في الولايات المتحدة. عندما كنت طالباً في كلية الهندسة يومئذ, كان من بين متطلبات التخرج مادة تعنى بتطبيقات علم الجيولوجيا في الهندسة المدنية، إذ لا بد للمهندس قبل الإقدام على إنشاء مشروع كبير كسد أو جسر مثلاً, أن يلم بالتاريخ الجيولوجي للموقع المقترح, طبيعة التربة والتكوينات الصخرية هناك واتجاهاتها, وذلك عدا اعتبارات أخرى كالمياه الجوفية وما شابه. ومن حسن الحظ أن أستاذ تلك المادة لم يكن متمكناً منها فحسب, بل كان أيضاً معلماً قادراً على إيصال المعلومة إلى الطلاب بشكل محبب, وهي ميزة تكاد تكون نادرة بين أعضاء هيئة التدريس يومئذ في تلك الجامعة التي كانت, ولا تزال, تولي جل اهتمامها لمختبراتها لا لفصولها, فقد بنت مجدها على الأبحاث والاكتشافات العلمية في تلك المختبرات ما حقق لها 73 جائزة من جوائز نوبل حتى العام الماضي.
إلى جانب الأسلوب المحبب في تدريس تلك المادة كان البروفيسور هيرشفيلد يضيف عناصر تشويق أخرى كالرحلات الميدانية إلى مواقع مختارة في منطقة نيو إنجلاند New England في شمال ـ شرق الولايات المتحدة, والاختبارات الأسبوعية القصيرة, وغيرها. كما كان من بين أسباب الجذب لتلك المادة العلاقات الواسعة التي كان يتمتع بها أستاذها مع الشركات الهندسية الكبرى في أنحاء البلاد ما يكفل لطلابه فرص عمل جيدة في فصل الصيف وعقب التخرج أيضاً . لكن كل تلك الميزات لم تكن بلا مقابل بالطبع, فقد كانت متطلبات المادة من العمل والواجبات تفوق المتوسط العام للمواد الأخرى الذي يعد سقفاً عالياً مقارنة بكثير من الجامعات المرموقة.
في كل أسبوع تقريباً كان على الطلاب قضاء عدة ساعات في المختبر لمعاينة عينات جديدة من الصخور والكتابة عن خواصها والاحتياطات التي ينبغي مراعاتها في عملية الإنشاءات إن كانت تلك الخواص غير جيدة .ثم كانت هناك بعض المراجع للقراءة والتلخيص تليها اختبارات شهرية وضعت أسئلتها على نحو بالكاد يسمح لك الوقت المخصص للاختبار بالإجابة عن ثلاثة أرباعها في أحسن الأحوال. إلا أن المفاجأة جاءت في الأسبوع قبل الأخير للفصل الدراسي عندما قرر البروفيسور هيرشفيلد عدم الحاجة إلى عقد اختبار نهائي، والاكتفاء بعلامات أعمال الفصل المجمعة في تحديد الدرجة النهائية .تلك المفاجأة كانت صدمة لأولئك الذين كانوا يعولون على الاختبار النهائي لتحسين معدل علاماتهم.
جرى أخذ ورد في القاعة بين الطلاب وبين الأستاذ حسمه بابتسامة حازمة قائلا "إن أداءكم خلال الفصل الدراسي يعكس بشكل كاف ودقيق مقدرة كل منكم, وبالنسبة إلى موضوع العلامات فإنه لن يكلفني الأمر شيئاً أن أعطي كل واحد منكم تقديراً ممتازاً A)) كدرجة نهائية, لكن لن أفعل. إذ لو فعلت فسأكون قد خدعتكم وخدعت المجتمع بذلك التقدير الذي لا يعكس القدرات الحقيقية لبعضكم".
ذلك الموقف يعاودني بين الحين والآخر كلما قرأت أو سمعت عن حصول فلان من الناس على درجة علمية دون أي جهد في دراسة أو بحث ذي قيمة. والمؤسف أن يدفع المجتمع ثمنا غاليا لسكوته على تلك الممارسات, إذ عادة ما يُسخر ذلك الفلان إنجازه المزعوم لتحقيق مكاسب وظيفية واجتماعية تضعه في مراكز تمكنه من إرباك مصالح الناس والتشويش على أولوياتهم.
حبذا لو أن كل معلم ومرب في مدارسنا وجامعاتنا يحذو حذو ذلك البروفيسور ويرفع شعار "عفواً .. لن أخدع المجتمع", يومئذ سنكون قد ساهمنا في القضاء على كثير من المفارقات والمتناقضات في حياتنا وسلوكياتنا.