التسعير المزدوج للأسمنت
شهدت أسواق المملكة خلال السنوات الماضية ارتفاعا حاداً في أسعار مواد البناء, وارتفعت أسعار الأسمنت أسوةً بهذه المواد. وعانت السوق المحلية في بعض الأحيان عجوزات محدودة في الكميات المعروضةً. ولحماية المستهلك المحلي أقدمت وزارة التجارة العام الماضي على منع تصدير الأسمنت للحد من ارتفاع أسعاره وضمان إمدادات كافية عند أسعار معقولة. ومع أن أسعار الأسمنت ليست أكثر مواد البناء ارتفاعا إلا أن هناك حساسية محلية تجاه ارتفاع أسعاره، وذلك راجع إلى اعتماد قطاع وصناعة البناء بشكل كبير ومباشر على هذه المادة، وإنتاجه بالكامل تقريبا في النطاق الوطني، ومستوى الدعم الكبير الذي يتمتع به القطاع, خصوصاً انخفاض تكاليف الطاقة التي تشكل جزءا كبيراً من تكاليفه.
واعترضت مصانع الأسمنت كثيراً على قرار منع تصدير الأسمنت لأنه يحرمها من استغلال طاقتها الإنتاجية القصوى ويمنعها من تعظيم أرباحها, خصوصاً في ظل تراجع الطلب المحلي. واستدراكا للآثار السيئة لقرار منع التصدير وفي ظل تراكم مخزونات الأسمنت، أوردت بعض الإصدارات المحلية قيام وزارة التجارة باتخاذ قرار آخر يسمح بالتصدير شريطة تثبيت سعر الأسمنت للموزع المحلي بعشرة ريالات. ومع غرابة هذا القرار، إلا أن الغرض من اتخاذه يستهدف خفض سعر البيع إلى مستويات تقل عن المستويات الحالية. وتشير المعلومات المتوافرة عن الأسواق المحلية إلى أن مصانع الأسمنت تبيع الكيس في الوقت الحالي عند أسعار تراوح بين 8 و12 ريالاً للكيس، ويتوقف السعر على المنطقة ونوع الأسمنت. ويبدو أن شرط وزارة التجارة للتصدير يهدف إلى خفض المستوى الأعلى للأسعار بنحو ريالين أو نحو 17 في المائة، كما يحاول ضمان استمرار المستوى المنخفض للأسعار المحلية مستقبلاً .. فهل ستنجح الوزارة في هذه الخطوة وتمرر الخفض للمستهلك النهائي؟
واستنادا إلى بعض المصادر الصحافية فقد استجابت بعض المصانع الموجودة في المناطق الحدودية لهذا القرار، أما باقي المصانع فلم تستجب. واستجابت المصانع الموجودة في المناطق الحدودية للقرار جاءت حسب المتوقع وبشكل أسرع من باقي المصانع. وتعود الاستجابة إلى عدة أسباب لعل أبرزها أن هذه المصانع كانت تستهدف الأسواق المجاورة عند إنشائها، ولديها فوائض إنتاجية أكبر، كما أن هذه المصانع تقع بالقرب من أسواق التصدير في الدول المجاورة مما يخفض من تكاليف الشحن التي تشكل جزءا كبيرا من السعر النهائي لهذه المادة. ومن هذا يتبين أن المصانع الموجودة في المناطق الحدودية أو بالقرب منها تملك ميزة تصدير نسبية مقارنةً بالمصانع الواقعة في الداخل وبالقرب من المراكز السكانية الكبيرة. والسوق المحلية لهذه المصانع صغيرة الاستيعاب مقارنةً بالمصانع الموجودة قرب التجمعات السكانية الكبيرة التي تملك أسواقا محلية كبيرة وتعتمد على السوق المحلية، ولهذا يمثل السعر المحلي المصدر الأول للإيرادات والأرباح.
وسينتج عن القرار بعض التأثيرات في اتجاه حركة السلعة لأنه حدد سعراً منخفضاً للأسمنت في السوق المحلية مقارنةً بأسعار التصدير الحالية. ونتج عن هذا تكون سعرين رئيسيين لهذه المادة، أحدهما محلي والآخر خارجي. ونتيجةً لاختلاف الأسعار سيفضل المنتجون والوسطاء تصدير السلعة إلى الخارج ما قد يتسبب في إمكانية حدوث عجز في المعروض محليا. وسبق وكتبت قبل أسبوعين عن ضرورة تجنب تبني قرارات منع التصدير لأي منتج إلا في حالات الطوارئ. ولا يبدو أن ِوضع شروط سعرية للتصدير يحل المشكلة لأن وضع قيود على الأسعار وازدواجيتها يتسبب في تغيير اتجاهات تدفق السلعة. ولهذا فمن الأسلم عدم منع مصانع الأسمنت من التصدير أو وضع حد أعلى للأسعار المحلية، ولكن ينبغي تبني الأساليب التي لا تسبب نقصاً في الإمدادات المحلية وخسارة للاقتصاد الوطني. وأرى أن من الأصوب تبني إجراءات استرداد الدعم المقدم لصناعة الأسمنت عند التصدير. وسيعمل استرداد الدعم على خفض الأسعار المحلية ولكن مع السماح لهذه الأسعار بحرية الحركة ما يضمن إمدادات كافية للمستهلك المحلي ويخفض من تكاليف الدعم المقدم لهذه الصناعة. صحيح أن تصدير الأسمنت يرفع قيمة الصادرات الوطنية ويجب تشجيعه ولكن استرداد الدعم المقدم سيضمن ألا يكون صافي القيمة المضافة من عملية التصدير منخفضة أو حتى سلبية، كما أن من الرشادة قصر الاستفادة من الدعم على المستهلك المحلي.
وتوجد ضبابية حول المخول للتصدير للخارج، فهل التصدير مقصور على مصانع الأسمنت أم أنه مسموح للجميع؟ ففي حالة كون التصدير مقصورا على مصانع الأسمنت فسيلجأ الموزعون والوسطاء إلى وسائل استغلال النفوذ لجني مكاسب من عمليات التصدير غير النظامية. أما إذا كان التصدير غير محدد بمصانع الأسمنت فأعتقد أن الوزارة لم يحالفها الصواب في تحديد سعر منخفض للموزع المحلي، حيث سيلجأ الموزعون والوسطاء لشراء كميات أكبر وبأسعار منخفضة وتصديره للخارج ومنافسة مصانع الأسمنت في عمليات التصدير. والمعلوم أن معظم موزعي الأسمنت أجانب ويرتبطون بصورة أو أخرى بالأسواق المجاورة, ولهذا سيستفيد هؤلاء بالدرجة الأولى من القرار ومن ثم سيمرر أي انخفاض بعد ذلك إلى المستهلك المحلي. والقرار في هذه الحالة عبارة عن هدية مجانية تقدمها وزارة التجارة للموزعين والوسطاء دون أي مجهود بذلوه.