المشكلات نعم مستترة .. مقاربة الواقع (3 من 3)
من غير حاجة إلى الدخول بعمق في المعنى اللغوي لكلمة كفر, ومع الحذر من الوقوع والاستغراق في التنظير للعلاقة بين مصطلح الكفر عموما وبين مقاربة الواقع وما يحويه من مشكلات وما يختزنه من فرص, فأساس معنى كلمة كفر هو من تغطية الشيء, فكفر الشيء يعني تغطيته, والكافر يعني في الأصل هو ذلك الإنسان الذي غطى وحجب نور فطرته السليمة من أن تهديه إلى الله وتأخذه إلى طريق الخير. فالإنسان بالفطرة لا يرى سوى الله الخالق والمعبود, ولكن عندما تحجب هذه الفطرة وتغطى بلباس الجهل والشهوة فإن هذا الإنسان يعيش في ظلمة وعندها يتخذ إلاهه هواه. وهناك كفر من نوع آخر وهو الكفر بالنعمة, فالإنسان وهو مؤمن بالله قد يكفر وذلك عندما لا يلتفت إلى ما أنعم الله عليه من نعم ليستثمرها ويوظفها بما يعود بالخير على نفسه وعلى مجتمعه. وأكبر ما يحرم منه الإنسان الفرد هو عدم مقاربته لنفسه للتعرف على ما عندها من نعم ومصادر قوة ومواطن ضعف, فالإنسان الناجح هو ذلك الإنسان الخبير بنفسه والعارف بمكنونات شخصيته, وأما الإنسان الفاشل فهو ذلك الإنسان الذي لا يعرف عن نفسه إلا ما تمليه عليه شهواته ورغباته الجسدية. وأيضا فإن أكبر وأعظم ما يحرم منه المجتمع من نعمة هو معرفته بواقعه, فكل المجتمعات الناجحة التي تعيش في تطور مستمر تراها مشغولة بواقعها وتتابع وتنظم أدق التفاصيل في حياتها, وعلى العكس من ذلك تراه في المجتمعات المفلسة والفاشلة, فهي تعيش حالة انفصال عن الواقع, فالمشكلات تتراكم عندها والفرص تفوت عليها وقد يصل حالها إلى درجة تخرج حياتها وواقعها من بين يديها.
فكل مجتمع مطالب بأن يحيط بنفسه وأن يجتهد في معرفة واقعه, لأن مقاربة الواقع هي التي تتيح للمجتمع معرفة مشكلاته الحقيقية وبوضع يده على هذه المشكلات وبحسن التعامل معها يحظى ببركة ما تأتي به هذه المشكلات من فرص ونعم ترتقي بالمجتمع ماديا ومعنويا. مقاربة المجتمع لواقعه نعمة كبيرة وهي المدخل لكل الفرص التي قد يتطور بها المجتمع, فتغييب المشكلات وعدم الكشف عنها بأي حجة هو تعطيل حركة المجتمع للوصول إلى أهدافه المرجوة. ثقافتنا الماضية وامتداداتها الحالية لا تحبب لنا أبدا الاقتراب من الواقع, فكنا في الغالب نناقش ونخطط ونختار الأهداف ونحدد المتطلبات ونرسم المسارات لا على أساس الواقع على حقيقته بل في إطار الصورة التي هي في أذهاننا عن ذلك الواقع. ولعل أهم وجه نتلمسه في مرحلة الإصلاح التي باشر بها ويوجهها خادم الحرمين الشريفين هو ذلك المتمثل في الحرص على مقاربة الواقع بما يحويه هذا الواقع من مشكلات وأزمات, فالمملكة تريد أن يكون لها مكان في المستقبل والطريق, لذلك لا بد من أن يمر بالواقع ومواجهته وليس الالتفاف عليه أو الدوران حوله. الحاضر له متطلبات والمستقبل له استحقاقات وكلما التحمنا مع الواقع واشتبكنا مع مشكلاته كبيرها وصغيرها, ظاهرها ومخفيها, صرنا أقدر على استيعاب الحاضر واستقبال المستقبل.
هناك كثير من الأشياء التي تبدو لنا على أنها مشكلات ونريد حلها على أنها مشكلات ولكن عند التعمق فيها نجدها في الغالب تكشف لنا عن فرص أو أخطاء ارتكبناها وما هذه المشكلات إلا مقدمة لمشكلات أكبر منها إن لم تصحح الأخطاء التي أنتجتها, ووجود الخطأ أيضا لا ينتج مشكلة فقط, بل قد يتسبب في تعطيل قدرة لو استثمرت لعادت على المجتمع بالخير والمنافع الكثيرة, ومن هذه المشكلات الفرص التي تستحق منا معالجة تستثمر ما فيها من فرص, نذكر بعضها بشكل موجز:
1- التنوع الاجتماعي: هناك من يقدم لنا خطابا ثقافيا يريدنا به أن نعيش في دوائر وتقسيمات اجتماعية مغلقة على نفسها إما بدواع مذهبية أو مناطقية أو قبلية. هذا النوع من الخطاب يتوجه لنا على أساس أن التنوع الاجتماعي هو مشكلة في حد ذاته, فهناك افتراض لحالة من التوتر في حالة العلاقة مع الآخر, وبالتالي فالحل من وجهة نظرهم هو البقاء في دائرة المتشابه والمتماثل. وجود مجتمع بأطياف متنوعة هو بحق مشكلة لأنه يمهد إلى ظهور حالة الاختلاف والخلاف على حساب حالة الوئام والتوافق ولكن هذا التنوع المشكلة يتحول بفضل حسن إدارته والتعامل معه إلى مخزون هائل من الفرص الثمينة, التي باستثمارها يتاح للمجتمع أن يتطور وتتكامل قدراته وتتعزز وحدته. التعامل مع التنوع والاجتماعي على أنه مشكلة فقط سينتج لا محالة أجواء مشحونة وخطابا محتقنا, ما يؤدي إلى انعدام الحوار والتواصل بين فئات المجتمع, وهذا يجعل المجتمع أقرب إلى الوقوع في دائرة العنف. فمشروع الحوار الوطني الذي تبناه ودعا إليه ورعى مسيرته خادم الحرمين الشريفين, تأكيد واضح على أن التنوع الاجتماعي هو فرصة وليس مشكلة.
2 - الشباب: نحن مجتمع نصفه شباب وفئة الشباب لهم متطلباتهم الخاصة. وقد يتطلب الوفاء بهذه المتطلبات تخصيص كثير من الموارد والتقصير في ذلك ينتج للمجتمع مشكلات متنوعة وكبيرة. الشباب ليس هم المشكلة بل هم الفرصة الحقيقية لتطوير المجتمع وبناء مستقبله. المطلوب أن نتخلى عن التفكير والحديث عن مشكلات الشباب ونؤسس لثقافة تهتم وتحرص على إشراك الشباب في قضايا مجتمعهم, ثقافة تعزز ثقة الشباب بأنفسهم وتمهد لهم الظروف للقيام بكل الأدوار التي تعود بالخير عليهم وعلى مجتمعهم.
3- الفقر: بالتأكيد تحاول كل المجتمعات أن تحد من ظاهرة الفقر عندها, فاتساع دائرة الفقر يهدد استقرار المجتمع ويفوت عليه كثيرا من الفرص التي تطوره نحو الأفضل. ولكن الفقر مؤشر لقضايا أهم وأخطر على المجتمع, فبفضل التعامل مع مشكلة الفقر نستطيع أن نكتشف مواطن الخلل أو عدم التوازن في العملية التنموية. والاهتمام بمشكلة الفقر والفقراء تحريك للجانب الأخلاقي في المجتمع من تعاون وتكافل, وتقوية الجانب الأخلاقي مهم لوحدة المجتمع وتماسكه.
هذه وقفة موجزة مع بعض المشكلات الاجتماعية التي ينبغي تعديل نظرتنا إليها, فالمجتمع الحي لا بد له أن يبقى في حراك, وهذا الحراك بطبيعته, تدافع لعوامل عديدة ومتنوعة ينتج عنه مشكلات ولكن لا خطوة إلى الإمام من دون إزاحة هذه المشكلات. ثقافتنا مطالبة بحق بأن تعيد إنتاجها مصطلح المشكلة في خطابها لنا, فنحن في حاجة إلى خطاب ثقافي يضع لنا المشكلة في صورة الفرصة والتحدي لا أن يضعها في إطار الازمة والكارثة. نريد من الثقافة أن تؤسس لنا تربية تجعلنا نقترب من مشكلاتنا لا أن نخاف منها ونسرع بالهروب من عندها, ثقافة تؤسس فعلا لفهم جديد, وهو أن المشكلات بحق نعم مستترة.