دعوهم يفهموا الواقع..هكذا يتعلمون
كنت أكره التاريخ!!نعم، كانت هذه المادة لا تثير في نفسي إلا الملل وأحيانا الغضب من كثرة التواريخ والأسماء والمعارك التي يجب حفظها. ولعل بعض الصغار - والكبار - لا يزالون يكنون هذه المشاعر تجاه هذه المادة.. وفي حين أني لا أذكر اللحظة بعينها التي تحولَّت فيها رؤيتي للتاريخ، إلا أني أعلم أنها ما كانت لتحدث قبل أن أبدأ بفهم الرابط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وأعلم أيضا أن بداية الاهتمام بأحداث العالم كانت من حوافز الإقبال على التعلم والبحث. وعذرا على هذه المقدمة واطمأنّوا.. فلست بصدد الحديث عن "تاريخي" بل أكمل من حيث توقفنا في المقال السابق في حديثنا عن ربط العملية التعليمية بالقضايا العامة والأحداث الجارية.
والمغزى هو أن اهتمام الإنسان ووعيه وتفكيره فيما يدور حوله (كل حسب سنه بالطبع)، وإدراكه أثر القضايا العامة في حياته ومَن حوله هو أهم دافع للتعلم والبحث والعمل النافع، وقد حكت لي معلمة من جنوب إفريقيا تجربة توضح هذا المفهوم: تبدأ القصة بفوز تلك الأمة باستقلالها من النظام العنصري الاستعماري، ومن ثم إسراعها إلى طرح نظامه التعليمي جانبا. إلا أن ذلك تسبب في فراغ بما أنهم لم يطوروا منهجا وطنيا بعد، ولا يُعقل طبعا أن تتوقف المدارس ويتعطل التعليم .. فبادرت المدارس بفكرة وليدة اللحظة وهي أن يعلموا الأطفال من خلال الصحف ووسائل الإعلام، فيقرأ الطلبة الأخبار ويقارنون بين الصحف المختلفة وتغطياتها للأحداث وبين الكتاب وأفكارهم.. ثم فتح ذلك مجالا واسعا للحوار والتعلم، فالأحداث السياسية والاجتماعية لا يمكن أن تُفهَم بمعزل عن التاريخ، والأخبار العلمية تثير اهتمام الطلاب بمبادئ العلوم التطبيقية، والإحصاءات تلقي الضوء على تطبيقات ومنافع الرياضيات. وتقول المعلمة إن التعليم في تلك الفترة كان في حالة ازدهار، فالطلبة متحمسون للمدرسة ومقبلون على التعلم والمشاركة في العملية التعليمية.. كما أن المدرسين دبت فيهم الحياة وباتوا أكثر تفاعلا مع الطلبة. فلماذا بظنكم حدث ذلك؟ قد يقول أحدهم إن هذه الفورة التعليمية ما هي إلا مظهر من مظاهر الفرح بالحرية بعد عقود من الظلم، وقد يكون هذا عاملا ولكن الجواب الأكثر منطقية هو أن تلك الطريقة المبتكرة أعطت الطلاب فرصة لفهم كثير من المعارف في سياقها التطبيقي على أرض الواقع، فبدأوا بالربط بين المعارف وبتشكيل اهتماماتهم الفردية مما يجرهم إلى اكتشاف مواهبهم ومن ثم أهدافهم، وكل ذلك بإرشاد المعلمين. ولا حصر لما يمكن أن نعلمه لأطفالنا من مفاتح المعرفة ومن مهارات تفكير واستنباط وتقييم من خلال الوعي بأحداث الساعة وقضايا المجتمع والعالم، وما يستدعي ذلك إلا معلم مخلص واع ذكيا يحسن استغلال الموقف في التوجيه وتحريك العقل وما من قدوة في ذلك أعظم من منهج القرآن ومنهج نبي الله عليه الصلاة والسلام. وبذلك نسهم في زرع بذور الفهم الواعي للعالم في النشء، فيزدادون قربا من استشفاف الدور الذي يريدون القيام به، وهكذا تُبنى الشخصيات الفاعلة .. ليس بالحماية الساذجة من الواقع بل بالشفافية الواقعية الحكيمة التي تؤهلهم وتسلحهم بأدوات فهمه والتعامل معه بإيجابية بنّاءة ومبدعة.